بقلم :: عائشة إبراهيم
“هل لدينا شعراء؟” كان هذا السؤال هو عنوان المقالة التي نشرها الأديب خليفة التليسي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وبها أراد للشعر أن يخطو نحو التطور والاستقلال، وجاءت عبارات المقالة مستفزةً لتنسف نتاج الشعراء الليبيين الذين وصفتشعرهم بـ “فقر العاطفة الحارة، فقر الومضة الذهنية، فقر الدفقة الشعورية، الفقر إلى خفقات الوجدان ونبضاته”،كانت المقالة في مناسبتها في وقت لم تتشكل هوية حقيقية للشعر الليبي الذي تتطبع وقتئذٍ بمدارس شعراء المهجر وشعراء المشرق العربي، ولم تنتقد الشعر التقليدي باعتباره (عمودياً) يعتمد على وزن وقافية ومفردات اللغة، ولعلنا نتذكر قصيدته (وقف عليها الحب) التي حافظت على نفس البناء العمودي التقليدي، بعد أربعين سنة من مقالته المثيرة تلك.
لذلك..من غير الحكمة أن نقوم بتسليط عبارة التليسي كفزاعة على رؤوس الأقلام التي تنحت بَصْمتها في براح الشعر، كما أنه ليس من الحكمة أن يستكين الشعراء مثل تلاميذ نجباء لما يقوله النقاد الذين يتحدثون عن مفاهيم الحداثة والتجديد، فالحداثة في الشعر تكمن في القدرة على ربط النص بملامح العصر الذي يعيش فيه الشاعر، وهذا كافٍ لكي يكون شعراً حداثوياً.
هذه مقدمة ذات علاقة (بشكل ما) بالشاعر: أبو عائشة الأندلسي، (د.علاء الدين الأسطى)، الذي سمعته يلقي قصائده في أمسية نظمّها منتدى السعداوي الثقافي بطرابلس عشية السبت الماضي، وأتساءل هل سيكون رأي التليسي مختلفاً لو عاصر الأندلسي، ووقف على تجربته الشعرية؟ وكان ردي على هذا التساؤل قد طرحته في حينها على هامش الأمسية، في شكل مداخلة تكمُن فكرتها في أن الشاعر قد أضاف بعداً رابعاً للقصيدة إضافة إلى أبعادها الثلاثة المعروفة، أي: (الوزن والقافية واللغة)، فيما كان البعد الرابع الذي حققه الأندلسي هو بعد (الأثر الصوتي).
فأحد أهم الأسرار التي تختص بها قصيدة الأندلسي، وتؤثث الإحساس في تجربته، تكمن في قدرته على ترتيب أصوات اللغة، وتوظيف الأثر الصوتي، في مشاغلة الحس الوجداني، معتمداً على ترصيع موسيقي يفكك منظومة الانفعالات والمشاعر لدى المتلقي ويعيد ترتيبها وفق هارموني الدفقة الشعرية المنبثقة من ذات الشاعر، الأمر يشبه إلى حد كبير عصا المايسترو التي تنظّم أصوات الجوقة الموسيقية.. فحين تستمع إلىالنص الذي ألقاه في الأمسية:
طيفٌ سَرَىفاسْتبَاحَ السُّهْدَ والسّهَرا ما أَعْذَبَ السُّهْد إذْ طَيْفُ الْحَبِيبِ سَرَى
تَعـــَتّقَ الدّمْـــعُ في عَيْنيّ مُنْتَشِـــياً وَمَا دَرَيْتُ عَلَى الْخَدّيْنِ كَيْفَ جَرَى
وَدَوْحَـــةُ الْقَلْبِبِالأَشْــــواقِ يَانِعَــةٌ تُسَاقِطُ الْحُبَّ، أَحْسُو كَأْسَهُ عَطِرَا
وَكَـــرْمَةُ الْعَقْلحَــيّاهَا الهُــيَامُ فَمَـا أَمْسَى حَبِيبٌ بِهَاإلاّ وقَدْ سَكِرَا
يَامَنْ هَواهُ يُنَاغِي فِيَّ قَافِيتِي النّشْوَى التي دَاعَبَتْ رُوحاًغَدَتْ وَتَرَا ..
يَا مَنْ هَـــــوَاهُ يُنَـاجـِي فِيَّ أَوْرِدَتِي إِنّي أُنَاجِيكَ..فَجْراً .. عَانَقَ السّحَرَا
نَاجــَيْتُ طَيْفَكَ ..سِــــرّاً لاَ أَبُوحُ بِهِ حَتّى دَرَى الدّمْعُ بالنّجْوَىفَمَا صَبَرَا
كُلُّ النّفُــوسِ إِلَى أَحْــبَابِهَاادّكـَرَتْ فَكَيْفَ نَفْسِي..إِذا خيْرُ الْورَى ذُكِرَا؟
وَكيْفَ نفْسِي وَمَا ذَاقَتْ، وَلاَ عَرَفَت لَوْلاَ هَوَاكَ الْهَوَى..وَاللهَوالسُّوَرَا ؟
لولاَ هَوَاكْلَمَا رَبّاً دَرَيْتُ وَلاَ سِحْراً تَلوْتُ..ولاَ غَازَلْتُ لِي قَمَرَا
يا مَنْ أُحـــــِبُّ؛ كَفــاني أنَّ قــافيَتِي زُلفىٰ إليْكَ، فَهَبْ.إِنّي مِنَ الفُقرَا…
في هذا النص ترى أن الشاعر تخيّر تركيبة صوتية تعتمد على الحروف الهامسة حرف (السين) وهو حرف ترتبط دلالاته السيميائية في وجدانً المتلقي بالتسبيح والبسملة، فكيف حين يجتمع مع حرف الراء فيتحقق من اجتماعهما رقة المناجاة وحلاوة التذلل: سرى، سهر، سُوَر، سَكِرا، سحْر، سرَاً، فتزدحم الصور الشعرية من خلال هذه اللغة الترميزية، ويستحضر في الذاكرة المنظومة الدينية والصوفية والهدْي النبوي. ويعبّر حرف الهاء في أوساط النص عن آهات النفس المكتومة التي تحتاج إلى دفقة صوتية خاصة تخرج من بين الضلوع: السهد، الهُيام، الهوى،فتتصاعد بذلك وتيرة الاحتشاد العاطفي المقترن بأعلى درجات الهيام والتضرع.
ثم تتدرج الحالة الوجدانية إلى خاتمة مستوياتها حتى أنه لتكاد أن تسمع الأنفاس الحرّى من عذوبة المناجاة من استخدامه لحرف الفاء في آخر النص وهو الحرف الوحيد الذي يدفع بالأنفاس خارجاً، من بين الشفتين فتبلغ بذلك الحالة الوجدانية منتهاها: نفسي، كفاني، قافيتي، زلفى، فقرا!! فهل هي مصادفة أن تأتي الحروف بهذا الترتيب المتدرج بحسب حالات الانفعال العاطفي المتدرج من: همس المناجاة، إلى الآهات المنبعثة بحرارة، وصولاً إلى آخر الأنفاس التي تخرج ببلوغ القصيدة منتهاها؟
الأثر الصوتي الذي يوظفه الأندلسي ليس مرادفاً لموسيقى الشعر، ذلك الاصطلاح المتعارف عليه ضمن محسنات القصيدة، فالموسيقى ليست بعداً أصيلاً باعتبارها تتمازج مع الأبعاد الثلاثة التقليدية (الوزن والقافية واللغة) وبإمكانك أن تتحسس الموسيقى الشعرية في إيقاع النص وفي قافيته وفي مفرداته، ويحدث أن تجد قصائد موزونة ومقفاة بشكل دقيق ولها لغة مموسقة،دون أن تحقق اقترابا من روح القارئ وحواسه، قصائد تعطي انطباعاَ أنها قطع معلبة لاتنفذ إلى القلب ولا تحرك الوجدان أو المشاعر ولا تقترب من الذات فتشعل فيها التساؤلات..وتحشّد فيها العاطفة وتوقد فيها الومضة الذهنية والشعورية. أما الأثر الصوتي فهو بعد أصيل في النص كاشتراط لبلوغه مرتبة الشعر لأنه يربط بين الإحساس الوجداني لكل من الشاعر والمتلقي وفق المنظومة النفسية المشتركة بينهما، فما يميز هذا الأثر هو قدرته على تحقيق خاصية (الإحساس) تلك القيمة العظمى التي تضع علامتها الفارقة ما بين الشعر والنظم، وللتفرقة ما بين موسيقى الشعر والأثر الصوتي المجرد، سنطالع نص الأندلسي الذي وظف فيه الأثر الصوتي لحالة (الصمت) في نصه الذي قدمه بعنوان (لاتهجريه) يقول:
قصيه يا بنةَ ضِلعهِ ثم احرُســــيه وتحسسي ألواحَه لا تهجريه
في خلوة التابوت يُســــرج شعرُه ليضيء في بحر الدجى قبساً بفيه
يمشي على الماء الذي انبجست به عين الوداع على ضفاف مودعيه
يقـــتات مـن دمــع بـه قطــــــرتْ طهارةُ مقلةٍ بسوادها تفديه
ودعاء زاهدة وراء حجابها اعتكفت وترسل روحُها تحميه
وفراغ قلبِكَ يمــــلأ الدنيا ابتهالات لعل وشيجها ينجيه
وغــــــدا يعود إليك يتــلو لوحــــه فعلام- منذ الآن- لا تأويه؟
إن كان سحر بنانِه يغري به فالسرُّ في الروح التي تمليهْ
هنا ودون الخوض في جمال الإسقاطات والمجاز وسحر الروح وطقوس التأمل، فكل ذلك يقع في نطاق البعد الثالث وهو بعد اللغة الذي قد تجاوزنا الخوض فيه باعتباره أحد أبعاد المدرسة (النظمية) لكننا سنناقش مفعول الصمت في هذا النص، وكيف يضيف الصمت (وهو أثر صوتي سالب) قيمة موجبة إلى القصيدة؟ وماهو السحر في لحظات الصمت الفاصلة بين الوقف (السكون) على حرف الهاء في آخر القافية وما بين مطلع البيت الذي يليه؟
إن انتهاء الأبيات بحرف هاء عليها سكون.. وقبلها ياء ممدودة بطول ست حركات هي كافية لإخراج كل توترات النفس وتأوهاتها، ينفثها الشاعر خارج القفص الصدري ويتوقف لحظات عند علامةالوقف كمن يستريح بعد نفس مرهق وشاق ومعاناة وجدانية تبلغ منتهاها في شكل زفير حار أو تنهيدة فياضةوحين يصل إلى البيت: (إن كان سحر بنانِه يغري به.. فالسرُّفي الروح التي تمليهْ)،يلقي بثقل أوجاعه قبل انكشاف السر، ثم يعلن لحظة الصمت فيتخلق مناخهالروحي متفاعلا بحرارة يمتد أثرها إلى خيال المتلقي،فيؤسس الانبثاقات التأملية وتتكشف دلالة المكتوم الذي انبعث من اندفاع الهاء الحارةالنابعة من الأعماق.
هذا الترصيع التراتبي للأصوات والحروف بإمكان المتلقي استشعاره سواء سماعاً أو قراءة، وهو الذي يؤدي إلى انتقال الانفعالات النفسية بين الشاعر والمتلقيالذي يعيد ترجمة النص وفق منظومته الشعورية المختزنة في عقله الباطن، وهو ما يكوّن الدفقة الشعورية أو العاطفة الحارة التي تحدث عنها التليسي، وبالتالي يمكن القول بأن مفهوم الإحساس (الذي يحتاج إليه النص المقفّى والموزون والمموسق والمنضبط اللغة لكي يصبح شعراً)لم يعد مفهوماً عائماً أو فضفاضاً إذا تمكن الشاعر من تتبع الأثر الصوتي وربطه مع الصدى النفسي في ذات المتلقي.