وماتت الأشجار التي أنارت شارعنا

وماتت الأشجار التي أنارت شارعنا

  • الطيب صالح طهوري

كلما هبت الريح، شمالية كانت أو جنوبية..شرقية أو غربية ، تنطفئ المصابيح..كلما امطرت السماء تنطفئ أيضا..كل شكاوينا وضعت في سلات المهملات ..

قال لنا: بعد سبعة أشهر من الآن لن تحتاجوا إلى أعمدة إنارتكم هذه الضعيفة..ورأيناه صباح الغد يغرس بجانب كل عمود شجرة سرو..

سألناه: لماذا تغرس أشجار سروك هنا بجانب أعمدة الإنارة بالذات؟..ابتسم..سأجيبكم حين تكبر..

كان قد تخرج من كلية العلوم الدقيقة..وكان من أوائل دفعته في الترتيب..ثلاث سنوات مرت ولا عمل يناسب شهادته..مواصلة دراساته العليا تحتاج إلى أكتاف عريضة وبعض النجمات، وهو لا أكتاف له ولا نجمات في ليله الطويل..

بعد الأشهر السبعة بالتمام والكمال رأينا أشجاره تعانق سماءها..

كيف علت بهذه السرعة؟ سألنا بعضنا بعضا..وسألناه هو الآخر..

ذاك سري، أجابنا..

ورأيناه صباحا يحمل سلمه الحديدي وينزع المصابيح من أعمدة إنارتها العمومية..

رأيناه يلصقها بأعالي جذوع الأشجار..

مجنون، قلنا..كيف ستضاء المصابيح من الأشجار؟..لكننا اندهشنا ونحن نراها تضيء ما حولها وتضيئنا حين نزل إلينا ومسح بكفه على الجذوع..

زقزقت العصافير في سمائنا..رقصنا سعداء وزغردت نساؤنا فرحات..أطفالنا خرجوا زرافات زرافات، إناثا وذكروا ،وراحوا سعداء يلعبون..

*

في ساعات صباح الغد الأولى كان رئيس البلدية يسير بسيارته في شارعنا الترابي..لم يكن وحده..سيارة الشرطة كانت ترافقه..

سألنا: أين بيت الذي فعل هذا؟ أشار إلى مصابيح الأشجار ولم يذكر اسمه..

أنا هنا، رد..منزلي هناك..هو ذاك..

هو أنت إذن؟..أكمل مشيرا إلى الأشجار: لقد ارتكبت خطأ جسيما يا هذا..غرست أشجارا سريعة النمو دون ترخيص لك بذلك منا منذ سبعة أشهر وسكتنا..وها انت ترتكب خطأ جسيما آخر، وأشار إلى الأعمدة..

لقد أضأت الشارع وأعفيت البلدية من دفع تكلفة الكهرباء، علق..

قلنا كلنا: لقد قام بفعل حسن، كان من الواجب شكره عليه ،لا تانيبه..

القانون هو القانون،ولا أحد فوقه، رد علينا..هو حر في منزله يفعل ما يشاء..في الشارع لا..الشارع للبلدية هي من تقرر ماذا سيكون فيه..

في سرنا قلنا: يا للقانون..ياله من مسكين..

علنا قلنا: لقد قدمنا الكثير من الشكايات، لكنكم لم تفعلوا شيئا..دار لقمان دائما على نفس الوضع والعنوان..لماذا لم يتحرك قانونكم؟..

رد غاضبا: الأمر يعود إلى إمكانيات البلدية المحدودة..هناك أولويات أيضا..انتظروا حتى يحين دوركم..

صمتنا..في صمتنا همسناا: لقد حان الدور ومات..

غادرالرئيس مسرعا بسيارته السوداء..

شرطة البلدية حملته في سيارتها..في مقرها كتبت محضرها..وعشية جاءت باستدعاء المحكمة له..

*

لم نره منذ أيام..كلما سألنا عنه جاءت الإجابة: إنه بخير..أين هو؟..في مكان آمن ،يجيء الرد..كنا نعتقد أنه يلازم منزله ألما..بعضنا اعتقد أنه في مكان ما خارج حينا..

قبل المحاكمة بيوم قرأنا في الصحف الدولية: عربي لم يمر على إقامته في(…)أكثر من أسبوع يخترع طريقة تجعل الأشجار تضيء المصابيح الكهربائية..وشاهدنا من خلال القنوات العالمية الأشجار وهي تنير ساحاتها في المدن والقرى..وحتى في الغابات..

سألنا أهله عنه..

ابتسم اخوه..سافر حارقا منذ ثمانية أيام،قال..

*

ريحا جنوبية سافية كنا..ماتت أشجاره بعد أيام قليلة في تلك الريح..

لقد ماتت حزنا على فراقه، قلنا..

ولم نر إنارة في أعمدتنا..

لم نسمع زقزقات عصافير في السماء..

*

حكمت المحكمة غيابيا وباسم الشعب العربي على المدعو(…) بعام حبسا نافذا جراء تعديه على ممتلكات دولته

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :