تَنّوَه
مايشبه ترسب التجارب والمعرفة
- سعاد سالم
soadsalem.aut@gmail.com
الخيال
كل مايخص الصغار يعتمد على عالم من الخيال، عالم غير واقعي، أو نصف واقعي، رُسم بالأفكار ، عشته شخصيا مع خرّافات حنّاي، وسلسلة القصص العالمية والتي تتشابه في قسم منها مع الخرّافات التي كنت أتمتع بها ليلاتي فيما ألف ساقي الصغيرة حول خصر حنّاي، حتى أن إحدى روايات باولو كويلو من أولها لآخرها أرجعتني إلى تلك الليالي القديمة في السوالم،
أحببت الراديو دائما، كنت في الصف السادس تقريبا حينما مثلت حسب خيالي المشهد الأخير لفارس بني حمدان فيما يقرأ أبياته تحية ورسالة وداع لأبنته :
أبنيّتي لا تجزعي، كل الأنامِ إلى ذهابِ
نوحي عليّا بحسرة ، من خلف سترك والحجابِ
قولي إذا ناديتني، وعييت من رد الجوابِ
زيّنُ الشبابِ ،أبا فراس ،لم يمُتّع بالشبابِ.
(كتبتها دمغي) كان التوقيت صيفا، منتصف النهار، والراديو مفتوح على الدوام، ولم تفتني في الغالب التمثيليات الإذاعية التي تسمح لي بالتخيل، فالخيال كان دائما أجنحة ترفعني فوق الرتابة ،وتخفف الجاذبية التي بقدر ماترفعني عن الأرض ،ترفع الأدرينالين، كما تفعل بنا قصص الغولة، وعزيّزة القايلة، القصص التي ننجو فيها دائما.
فنفرقع نحن وضحكاتنا وكأننا بالونات مملوءة بالماء واصطدمنا بالأرض أعني بالواقع.
زيّ الفار والقطّوس
هكذا تشبّه الأمهات عراك الأخوة الصغار، هل يعني هذا أن أحدهم سيغلب التاني؟ هل هذا يعني أن واحدهما شرير والآخر طيب؟ لكن الأمهات في الغالب يقصدن العداوة التي لامفر منها بين الصغار، لأنهم اصغار، وهذا شيء طبيعي، ولكننا عرفنا هذه المعارك بشكل آخر يناسب الخيال، معارك القطوس توم والفار جيري ،وعلى عكس كل الخيال الممتع والذي كما في مباريات المصارعة الحرة ،وبروسلي ،وسائر أفلام الأكشن يكون البطل مغلوب في البداية ثم يتحول الخط الدرامي نحو فوزه، لم أحب انتصارات جيري ربما لأننا لا نلاحظ في الغالب أننا ننتصر للظالم، سيقول البعض : خيرك كبّرتي الموضوع؟ وهذا صحيح لأنني كنت أخوض في الخيال وأهميته قبل قليل، لكن في الحقيقة كرتون توم آند جيري ظللنا نتابعه كبارا وصغارا لما فيه من متعة، و لأن جيري كان يغلب توم دائما، تعاطفت مع توم على عكس سعادة الآخرين بجيري، الفأر الجميل .لأن الفأر والذي في لغوتنا هو لقّامة لأي شخص مفسد (فار النزيس)، ولأنني تواجهت معه أكثر من مرة، وجها لوجه، لم أستطع إلا التعاطف مع توم والذي رغبت لو أنه يفوز دائما، والنزاسة هنا في لقّامة الفار أيضا لا تقتصر على النجاسة كما هى مفهومة اليوم في شكلها الضيق ،بل تعني أي فساد ،ومن أي نوع هو فعل نزيس، لاتبدأ بالكذب ولا تنتهى بالسرقة، فكل ما بينهما من أفعال قبيحة هي نزاسة.
لكن ما علاقة كل هذا؟ في تصوري العلاقة بين أن يصبح الفأر جميلا وصغيرا ونظيفا كما ظهر ويظهر في الكارتون، هو في الحقيقة كما قد يتوصل له البالغ لاحقا ، يقول أن المظهر الذي يتم تسويقه للنزيس هو ما سيحكم عليه، فالناس تأخذ بالمظاهر، ولا يهمها النظر في حقيقة هذا لكيوت،بل في الغالب تعرف، ولا يهمها.
أعني أن الخيال الضروري قد يمرر من خلاله رسائل خاطئة حتى وإن لم تكن مقصودة، فالخيال اللازم لتغذية أرواحنا التواقة للحرية، ومغادرة أسر الواقع ،ستحب دائما الخيال، غير أن ثمة أعراض جانبية لكل شيء جيد، كما الأدوية، والتي قلما نهتم كمرضى بمعرفتها. فالعلاج دائما فيه نسبة مخاطرة لا أحد يختصرها لنا ، وغالبا لانريد معرفتها.
فأر تجارب
يستخدم الكثير منا مصطلح فأر تجارب، كناية على عدم أهمية حياتنا، ويستخدمه البعض حتى في التحليلات السياسة ، لكن الشخص المحترف قد يوظف التعبير غير أنه يعرف أنه لعب بالكلام، أما غير المحترف يعتقد في سوءه فعلياً، لكن السؤال المحير لماذا الفئران تستخدم في التجارب التأسيسية كأول خطوة قبل أن تصبح الدراسات أو التجارب صالحة للتطبيق على البشر (الأدوية مثلا)؟ ما علاقة البشر بالفئران؟ ياله من سؤال مقزز حينما اتأمله.
العلاقة بيننا وبين الفار إي نعم النزيس نفسه، أننا نشترك معه في جوانب جينية ونفسية كثيرة، بل وأيضا في التفاعلات البيولوجية وأعني هنا الافرازات، ونتشابه في بنية الأنسجة ووظائف الأعضاء والتي بها يقاس تأثيرات الأمراض والعلاج.هذا من الجانب الطبي ،وهناك أيضا السلوكي، فالفئران تشبهنا في سلوكها لتأمين الغذاء وتوفير المأوى وفي التواصل الاجتماعي وفي التكيف مع البيئة، حتى أنها تتعاون لإقامة مأوى مؤقت في حالات الطوارئ! بالتأكيد هذا لايعني أننا لا نتشابه مع حيوانات أخرى، فالقرود كالشمبانزي والبابون والدلافين والحيتان والغربان، تستخدم في دراسات السلوك البشري، والخنازير البرية تفيد في بعض الأمراض والسلوكيات.،غير أن الفئران لها ميزات التكاثر السريع والقدرة على التكيف وعلى التعلم والاستجابة للتجارب، يالحظها السيئ إذن! ربما لم يكن تلميع الفأر يقصد منه أن لا نرى الجانب السيئ فقط من الكائنات، إذ في نظرة عامة نحن مدينون بحياتنا للفار النزيس.
آه ياعيني
ليس هذا بداية للتكملة المنغمّة ياليل، بل هناك شيء أصاب عيني بالفعل وذلك قبل عام، فجأة ظهرت نقاط عائمة أراها حيثما حركت صبّي العين ،الأمر المزعج للغاية، ولكن ما اهتمت له الطبيبة أكثر هو رؤيتي لما يشبه فلاش ضوء ذهبي كلما حركت البؤبؤ وذلك في الزاوية اليمنى لعيني اليمني، وكان لابد من الذهاب إلى اختصاصي العيون فورا، حددت موعدا وانطلقت إلى كايزر زفارد على بعد ١٠ دقائق بالباص، وبعد الفحوصات الدقيقة والكثيرة، تقرر أن تحقن عيني المتضررة بدواء يوقف هذا الذباب الطائر (عوائم العين) أو بالأحرى تقليلها، ولن قبل ذلك كما أخبرتني الممرضة المسئولة عن ضرورة العودة إلى البيت بعقد من ثلاث صفحات عليّا قراءته جيدا، وبالموافقة عليه يبدأ العلاج،(يعني Up to you)، رجعت وترجمته بالحرف لكي لا أتكل على الفهم العام وخصوصا لاقتظاظه بالمصطلحات، وعرفت أن الدواء جديد وهو لايزال في حالة تجريب، وبالتالي الموافقة على على هذا العلاج يكون على مسئوليتي، فأعجبني الأمر ،أعني أعجبني أن أكون ضمن التجربة ، فمنذ طفولتي ومازلت أتناول أدوية معتمدة ،دون معرفة على من تم تجربتها أولا، وهل كانوا يعرفون، كما هو الحال معي؟ فكل دواء اُعتمد كان جربه مالانعرف من الناس، وأحببت أن أكون فأر تجارب، ذاك الذي نسميه فار النزيس،ويغلب القطوسه في الكارتون، فالدواء الذي كلما جرى في إبرة يدقها الطبيب في عيني حرفيا حتى يكاد يقف قلبي، آتى مفعوله فعلا، فعيني حسب آخر تشخيص في 1فبراير من هذا العام ، حتى أنني لست بحاجة لموعد فحص قبل ستة أشهر، فانفجرت سعادتي مثل البالون المملوء بالماء، حين يرتطم بالأرض، بالواقع.
_____ * ياقطوسه طبعك غدّار = أغنية ليبية قديمة للأطفال في منتهى الجمال، والخيال الساحر.