شارل بوكوفسكي بين الرواية والسينما

شارل بوكوفسكي بين الرواية والسينما

 زبون البار/ هوليوود/هند الزيادي

هذا الموضوع لن يتعرّض لتجربة شارل بوكوفسكي الرّوائية و السينمائية في مطلقها. بل سيتهتم، في محاولة متواضعه، بتجربته بين رواية هوليوود التي صدرت في سنة 1988 وبين فيلم زبون البار الذي كتب له بوكوفسكي السيناريو سنة 87 .وقد تعوّد المُتلقّي على أن تُكتب الرّواية ثمّ يكتب منها الفيلم .ولكّن بوكوفسكي قلب الآية وكان وفيّا لعادته في خرق المألوف والثورة عليه ، فجاءت رواية هوليوود كنوع من المايكينغ أوف Making off

 لفيلم “زبون البار”.وهو أمر فريد ولم يحدث على حد علمي قبل ذلك الوقت.

 بداية يجب أن نقول إنّ العالم الروائي لشارلز بوكوفسكي هو عالم خاصّ به نحته من تجربته الحياتية في جلّ مؤلّفاته فكان أدبه مندرجا ضمن ما يسمّى ب”أدب التدوين”، إذ أنّه كان يكتب عمّا يعيشه من تجارب في حياته المليئة بالتّقلّبات من عامل بريد إلى قمة الشّهرة الأدبية وعالم هوليوود السينمائي السّاحر.

خصوصية هذه التجربة الفنيّة ، إذن هي التي دفعتني لكتابة هذا المقال لمحاولة قراءة أوجه التقاطع والتّباين بين الفيلم والروّاية-إذا أردنا أن نتبّع النظام الزمني الصّحيح لصدورهما

تلقّى الفيلم حين صدوره نجاحا نسبيّا ونقدا متراوحا بين الثناء والإمتعاض.خاصّة عند الذّائقة الأمريكية الكلاسيكية التي تعوّدت على نمط فنّي معين سوّقته هوليوود عن الأبطال والبطلات اللواتي يعشن في المخمل ويتحلّين بالماس.وكان  أكثرما  تذمّر منه  المتلقّون ، آنذاك،هو بذاءة الألفاظ  وتفاهة القصّة ومن الإطار الذي تدور فيه الأحداث (الحانات  والشّوارع الخلفية في  شرق هوليوود وهو المكان الذي ترعرع فيه بوكوفسكي وفيه تتجمّع الفئات المهمّشة من المجتمع المريكي ويعيش فيه العمّال والمهاجرون الجدد والمهمّشون والمشرّدون في الشّوارع).وهذا ما تحكّم في الشخصيات والأمكنة داخل الفيلم فكانت الصّورة دوما غارقة في ظلال الشّوارع الخلفية أو مضاءة بأنوار فجّة للبارات ولمحلّات التّعري الرّاقص.تحكمها الفوضى وتتداخل فيها المكوّنات الهامشيّة التي تشعر المشاهد منذ البداية بعدم الرّاحة ، بين حاويات الفضلات وقيء السّكارى والشوارع المظلمة التي توهمك بأنّك ستتعرّض لعملية سطو مسلّح من أحد المجرمين المتربّصين بالمارّة.لكن لا شيء من ذلك يحدث.إذا يأخذنا الفيلم في رحلة بائسة رتيبة لبطل بائس رتيب يقضي كامل الفيلم مناكفا للنّادل متشاجرا معه حول إمرأة أو حول رهان تافه.وينفتح الفيلم بمشهد شجار دام وينغلق بنفس المشهد وكأنّ الزّمن واقف  في حياة ذلك البطل وحياة زبائن البار القارّين،ولا نكاد نجد حكاية تُذكر في مفهومها التقليدي بين بداية وتصاعد للاحداث وتأزّمها ثم الإنفراج الذي ينتظره الكل.كلاّ، الفيلم أحدث حالة انزياح جديرة بالتفكير. فالهامشي هنا هو البطل.

يبدأ الأمر من صورة البطل نفسه الذي يقف على طرف النقيض كلّيا مع البطل الهولوودي الوسيم المنتصر دوما .ف”هنري شناسكي”  وهو هنا إسم التّقية الذي اختار بوكوفسكي أن يكتب به عن نفسه، هو بطل هامشي لا يكاد يعمل ولا يكاد يفيق من السّكر إلاّ ليسكر ثانية، ولا ينتصر أبدا في شجاراته الدّامية.مّما يحيلنا على البطل الحقيقي في هذا الفيلم وهو”ثيمة الشّراب” .إذا لا يخلو مشهد من كؤوس الخمرة الرّخيصة التي يُغرق فيها البطل عجزه عن إيجاد مكان له تحت شمس الحياة النّاجحة، بعيدا عن الحانات وظلام شوارعها الخلفية. ومما يدعّم قولنا هذا هو ما قاله بوكوفسكي نفسه عن الشّرب وعلاقته بالخمر في رواية “هوليوود” بعد ذلك: “لكنّي –بصراحة- لم أكتب عن نفسي لأقدّم نفسي بطلا، كلّ ما أردته هو لفت الأنظار إلى الحياة الغريبة والبائسة التي يعيشها السّكيرون، وكنت أنا أكثر سكّير أعرفه حقّ المعرفة، لذلك كتبت عن نفسي.أعتبر نفسي من سلالة الكتّاب الكحوليين: يوجين أونيل، وليم فوكنر ، آرنست هيمينغواي، جاك لندن.لقد كانت الخمر تطلق العنان لأقلامهم وآلاتهم الكاتبة.وتمنحهم الألق الفريد والجرأة النّادرة.” 

بعيدا عن المعيار الأخلاقوي ، إذن شكّلت الخمرة محور حياة البطل هنري شناسكي وساعدته على تحمّل غربته وتحمّل عبث الحياة التي لم يحملها يوما على محمل الجدّ. فلم يكن يسعى طيلة الفيلم لا إلى مال ولا إلى وضع إجتماعي مريح. ولم يكن يحمل مخطّطات ذكيّة لمستقبله أوحتّى لليوم الموالي.وشاركته واندا ذلك .وهي إمراة تعرّف عليها في البار وشاركته شربه ومتعة التشرّد .تبدو هذه المرأة –التي لعبت دورها الممثله فاي دونوواي-إمرأة راقية جميلة هادئة متناقضة مع جو الحانة الرّخيص ثم ما تلبث أن تكشف عن حقيقتها فإذا هي أيضا واحدة من كلّ هؤلاء الذين يقطنون الشّوارع الخلفية  ويغرقون فشلهم وعدم قدرتهم على التواجد قرب البشر الآخرين في كؤوؤس الشّراب الرّخيص التي لا تكاد تغيب من مشهد.واندا إمرأة عاشت مع رجل بغيض قطعت معه ثم قرّرت أن تعيش مع هنري الذي صادفته في الحانة ، ثم ما تلبث أن تدمن الخمر هي الأخرى وتغرق فيها.حياة هامشيّة إذن لا مستقبل فيها ولا يبدو على البطلين أنّهما معنيّان بالتفكير في مستقبل.ولا شيء إستثنائي يظهر في الفيلم عن هنري شاناسكي/شارلز بوكوفسكي سوى بعض الأبيات التي يقولها في حالة سكر ويدوّنها.كانت الخمرة هي المحرّر لملكاته الشعرية ولموهبته، فعندما يكون صاحيا لا يتذكر شعرا ولكن بمجرد سكره يتحرّر عقله وتتحرّر مخيّلته لتتفتّق قريحة الشّاعر.وهو ما يدعم قوله الذي تعرضنا له سابقا.

وبمجرّد خروج الفيلم إلى النّور سُئل بوكوفسكي عمّا سيفعله فاجاب ببساطة : ساكتب عن الفيلم.وهذا ماحدث فعلا إذ ألّف سنة 88 رواية هوليوود التي بدت فيها البنية القصصيّة أكثر وضوحا وتحديدامنها في الفيلم بالرّغم من أنه عمد أيضا إلى نفس أسلوبه في اختيار اسماء مغايرة لاسماء الشخصيات الواقعية  التي يدوّن افعالها. وذلك ، من ناحية ، لتجّنب المآزق التي يمكن أن يقع فيها نتيجة تلك المُكاشفات ثمّ  رغبة منه في منح القارئ والمشاهد مساحة من الحريّة والخيال بعيدا عن الواقعية التسجيلية.

و قد دوّن بوكوفسكي في روايته تلك كلّ كواليس الفيلم منذ بدأ فكرة تخامر صديقه المخرج السّويسري باربات شرويدر إلى أن عُرض في دور السينما ، وقد استعرض فيها كلّ ما اعترض سبيلهما كمؤلف للسيناريو ومخرجه من صعوبات مالية مختلفة .ولم يفته كذلك أن يتكلم عن بعض خفايا الإنتاج الهوليوودي ورغبات الممثلين ودلالهم وتحكّم شركات الإنتاج في كل شيء .فكانت الرّواية قصّة حياة الفيلم بامتياز، لكن في نفس الوقت كانت فضحا  للممارسات التي تجعل من راس المال والربح عاملا رئيسا قد يُسبّق على جودة العمل الفنّي إن لزم الأمر.

ومن الطرائف التي ذكرتها الرّواية إصرار النجم شون بين على استبدال المخرج الذي جاء يعرض عليه دور البطولة ورغبته في أن يخرج الفيلم صديقه دنيس هوبر.ولم يتحقّق  له ذلك وأُسند دور البطولة لميكي رورك الذي كان آداؤه فظيعا ، قد يصل إلى درجة السّقطة الفنيّة في الفيلم.وهذا كان راي بوكوفسكي أيضا الذي لم يرض عن النجم البديل الذي أوكلت إليه البطولة.

في الرّواية أيضا كانت الخمرة هي الملجأ والملاذ عند الفرح والتّأزّم ، فتحوّلت عند بوكوفسكي من مجرّد شراب يرافق المناسبات إلى إكسير للإبداع وللحياة أيضا ، فهي التي تساعده على تحمّل تلك الحياة التي لا ياخذها مأخذ الجدّ.ويساعده على الكتابة ويساعده على الفهم .وكأنّها عنده تحدث تاثيرا عكسيّا.إذ تُغيّب ذهن المجموعة ولكنّها عند بوكوفسكي تجلّي ذهنه وتساعده على معاشرة آلته الكاتبة التي ينجب منها جملا بسيطة بعيدة عن الحذلقة الأدبية، جملا عارية إلاّ من رداء الواقع بكلّ فجاجته وفظاظته.

ويتقاطع الفيلم مع الرواية ويتباين عنها فيما يتعلّق بالفترة الزمنية التي يتعرضان لها، فبينما يتحدث الفيلم عن الكاتب في بداية حياة التسكّع التي كان يعيشها متعثرا مع موهبة شعرية بالكاد بادية إلى بداية خروجه من حياة الفقر وبداية حصوله على مبالغ بآلاف الدولارات ومخالطته للنجوم وكبار المنتجين في هوليوود.دون أن يفوته إدانة الآلة الفنيّة الجهنّمية الهوليودية التي تعطي الممثلين والمنتجين صدارة الأحداث والحفلات وتُبقي على الكاتب وجها مغمورا في الصف الثّاني من صورة الشّهرة.

ظلّ بوكوفسكي وفيّا في الرّواية لفلسفته العدميّة التي رأيناها في الفيلم إذ قال في معرض حديثه عن اهتمامه بالرهان على الأحصنة: ” لكن من ناحية أخرى، تبدو المراهنة على الأحصنة مرضا سقيما، وتهرّبا من الإلتزامات اليومية، وبديلا عن الأعمال التي تكون مُجبرا على القيام بها، جميعنا بحاجة إلى الهرب، فساعات النهار تمرّ ببطء ورتابة ، وينبغي ملؤها بشيء ما..إلى أن نموت.”

وظلّ كذلك وفيّا لنفس دار النّشر الصغيرة التي نشرت له وهي دار” بلاك سبارّو” ولم يهتمّ أبدا بالأسماء الرّنانة الكبرى لدور النشر الجديده، بل نشر أغلب أعماله في تلك الدّار إلى أن توفّي في عام أربعة وتسعين.وبقيت هذه التجربة السينمائية الرّوائية فريدة أسّست في نظري لما يمكن أن نسمّيه

. وهو امر ما يزال يحتاج مزيدا من الدّراسة والتعمّق لتقصّيه وتحديد أثره The movie palimpsest

*ملاحظة:   مصطلح palimpsest  يعني تاريخيا “الرّق الممسوح” أو النّص الذي كُتب فوق نصّ آخر وقع محوُه، وهو امر كان الكتبة يمارسونه في العصور الوسطى عندما كان ثمن الورق مرتفعا فكانوا يضطرّون على محو النصّ السّابق لكتابة النّص الجديد.وغالبا ما كانت النصوص الولى القديمة تجد طريقها للظهور.مما اعطى لتلك النصوص جمالية وقيمة جديرة بالدراسة

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :