محمد أبوالعزايم
———–
انتبهت أخيرًا لصوت السائق الذي مد يده بعلبة سجائره ليدعوني إلى تدخين واحدة منها، أعادني صوته إلى السيارة بعد المكالمة التي ما كادت تنتهي حتى أخذَتني إلى ذلك الحي البعيد.
اتفضل..
جلستُ على الكرسي المواجه لمكتبها مبتسمًا في محاولة لإخفاء الدهشة التي اعترتني عندما نادتني باسمي مجردًا بعد انصرافي عقب المقابلة التي أجرتها معي، وكانت إحدى قدمي أمام الباب، والأخرى تتأهب لتحط على أولى الدرجات الأربع للسلم الذي يهبط بالخارج من الصيدلية إلى المساحة الممتدة من أمامها حتى حافة الطريق.
لم تكن المقابلة قد انتهت كعادة هذه المقابلات بعبارة:
“إن تم قبولك فسوف نتصل بك في موعد أقصاه كذا”؛
فقط كانت عباراة شكر متبادلة وقصيرة، كان فيها اسم كل منا مسبوقًا بلقبه.
كانت في مثل عمري، رشيقة، بيضاء، ذات وجهٍ وضيءٍ وعينين سوداوين تفيضان ابتسامًا وحياة.
وكانت لها أصابع طويلة تنتهي بأظافر تشبهُ الأَهلَّة.
نادت أحد المساعدين: حسن، فأجابها: نعم يا دكتورة
_ انت لسه هتقول لي نعم؟ ثم إيه يا دكتورة دي؟
أرسل المساعد ضحكة مهذبة، ثم التفت إليَّ قائلًا: إنها تفضل أن نناديها بلقبها أمام عملاء الصيدلية والغرباء فقط.
هكذا فهمت أنه تم قبولي للعمل هناك.
طلبَتْ منه أن يحمل إلى المكوجي معطفي الأبيض الذي سأختار قياسه المناسب لي من بين ثلاثة جديدة أرشدَتني إلى مكانها في أحد أدراج معمل الصيدلية.
بعد دقائق قليلة كانت تناديني: محمد،
–نعم يا شيماء
–انت لسه هتقول لي نعم؟! يللا برة المعمل عشان أدخل أصلي الضهر.
وبعد دقائق كنت وإياها جالسين في مواجهة واحد من ثلاثة أجهزة الكمبيوتر الموزعة فوق المكتب الممتد من أقصى يمين الداخل إلى الصيدلية حتى باب المعمل الذي يمثل ثلث مساحتها تقريبا.
شرحت لي كل شيء عن برنامج إدارة الصيدلية، وعن طبيعة عملنا التي يحكمها تعاقد الصيدلية مع ثلاثة من كُبريات شركات البترول التي ترسل مندوبيها صباح كل يوم بعشرات الوصفات الطبية التي تستدعي منا تحضيرها وإعداد فواتيرها الإلكترونية وطباعتها، على أن يعود المندوبون لاستلامها في الثالثة عصرًا، بعدها نقوم بالتواصل مع شركات الأدوية لتوفير ما يلزمنا، في الوقت الذي يمر فيه دكتور حسام صاحب الصيدلية لوقت قصير يقوم فيه بمراجعة سريعة. كان دوامي يبدأ في التاسعة صباحًا، ويبدأ دوامها قبلي بساعة، بينما ينتهي دوامنا معًا في الخامسة، قبل أن نترك الصيدلية لفريق عمل آخر. في الخامسة والنصف يمر زوجها المهندس حازم ليصطحبها إلى البيت، وفي غالب المرات كانت ترافقه ابنتهما يارا ذاتُ السنوات السبع. وكثيرًا ما كانت شيماء تفضل قضاء هذه الدقائق الثلاثين في الاعتناء بنباتات حوضٍ مربع الشكل يرتفع عن الأرض بنحو متر ونصف المتر وينهض أمام الصيدلية على يمين الداخل إليها. كان يحفل بالعشب الأخضر الذي تبرز منه أعواد النعناع والريحان، وشجيرتا ورد، وبعض نباتات الزينة القصيرة.
مرة أخرى أفقت على صوت السائق: حمد الله ع السلامة، على فكرة أنا ساكن قريب جدًّا منك، وواصَل: من غير م أقصد اتطفل فهمت من المكالمة ان عندك بكرة مشوار لمدينة نصر، لو تحب كلمني بكرة أوصلك.
أعطاني رقم هاتفه، واتفقنا على الخامسة والنصف.
أمام خزانة ملابسي المفتوحة وقفت أستعيد المكالمة، وأسترجع كلمات يارا: عمو محمد، وحشتني، هابي ڤالانتاين يا عمو، احنا هنا في مصر من شهر، أنا وبابا دخنا لحد م وصلنا لرقمك، خطوبتي بكرة، هاستناك، أوعى ماتجيش، احنا في نفس البيت.
لم أتردد في اختيار السترة الزقاء؛ كان الأزرق لون شيماء المفضل. تهيأت للنزول، هاتفت السائق، كان وفيًّا لميعادنا.
في الخامسة والنصف وصل حازم ويارا، كنا- شيماء وأنا- جالسين في انتظارهما على حافة الحوض المربع، وكانت شيماء في هذه الجلسة قد أقنعتني أخيرًا باستئجار صيدلية أحد زملائها، زميلها يعمل ويعيش في كندا، وأبوه الذي يتولى إدارة الصيدلية تقدمت به السن وحاصرته أمراض الشيخوخة، فعرض زميل شيماء عليها أن تستأجر الصيدلية، لكنها كانت قد خططت أن تقطع إجازتها من العمل الحكومي في نهاية العام، بعد أن ظلت لخمسة أعوام تجددها سنويا، أخبرتني أنها تريد أن تمنح يارا وحازم وقتًا أطول، في العمل الحكومي ستنصرف في الثانية ظهرا، وهذا أنسب لطبيعة الحياة التي تريدها. كما أن ذلك سيمنحها فرصة لزيارة والدتها في الإسكندرية مراتٍ أكثر؛ حيث دائمًا ما يكون الصيادلة الحكوميون أكثر عددًا من حاجة العمل في الأماكن التي يشغلونها، لذلك يجري في المعتاد تقسيم أيام الأسبوع بينهم؛ فتكون حصة الواحد منهم ثلاثة أو أربعة أيام عمل على الأكثر.
“ما تشيلش هم يا محمد؛ القرشين اللي انت محوشهم مع الجمعية اللي اتفقت أنا وحازم نسيب لك دورنا فيها هتقدر بيهم تزود الأدوية اللازمة، مع الأدوية اللي موجودة بالفعل، واللي أنا اتفقت مع الناس انك هتستلمها منهم وتسلّمها أو تسلّم قيمتها وقت انتهاء العقد.”
كانت شيماء قد ارتشفت رشفة واحدة من كوب الشاي التي كانت في يدها حين وصل حازم ويارا، طلبتُ من حسن أن يُعد كوبًا أخرى لحازم، واصطحبتُ يارا إلى المركز التجاري القريب من الصيدلية بينما لاحقني صوت شيماء بنبرة لا تخلو من الدعابة: “لو هاتجيب لي شيكولاتة معاها هات لي النكهة المصرية، وخليك انت دلعها كدا وهات ليها السويسرية، ما بقيناش عارفين نكلمها“.
عامان مرَّا على التحاقي بالعمل في الصيدلية كانا كفيلين بإضافة ثلاثة أشبارٍ إلى قامة يارا، وكثيرٍ من الألفة بينها وبيني.
بعد عودتي ويارا أخبرني حازم أنهما اتصلا بزميل شيماء الذي يقضي إجازة قصيرة في مصر بينما كنت ويارا في المركز التجاري، واتفقا معه على أن نلتقي جميعًا بمنزل حازم وشيماء في الثامنة مساء.
” ما تتغداش يا محمد، كل أي حاجة خفيفة لحد ما تيجي” قالت شيماء، ثم غادروا.
أنهيت الاتفاق على كل التفاصيل مع زميل شيماء. وقبل أن أغادر أعطتني شيماء نسخة مفاتيح الصيدلية، كان الصباح التالي يحمل تاريخ الرابع عشر من فبراير، وكان حازم سيصطحب شيماء ويارا من أول النهار للخروج احتفالًا
بعيد الحب.
صباحًا، رفعت عيني عن شاشة الكمبيوتر حين سمعت صوت يارا يسابق خطواتها على درجات السلم: “هابي ڤالانتاين يا عمو”، وقفت، ثم انحنيت واحتضنتها، بعدها بلحظات أنهت شيماء خطواتها على الدَّرَج صاعدة إلى الصيدلية، “صباح الخير يا محمد، أنا لقيت دوا عضلة القلب خلصان، قلت اعدي آخده واصبح عليكم”
دخلَت إلى المعمل، وعادت بثلاث زجاجات ممتلئة بالماء إلى أنصافها، وغرسَت في كل منها وردة حملتها معها من شرفة منزلها التي لا تملُّ الاعتناء بما تودعه إياها من شجيرات الورد، ونباتات الزينة.
“فيه سندوتشات حطيتها لك جوة في المعمل، افطر قبل ما يبردوا” قالت شيماء، ثم لحقت بيارا التي سبقتها مهرولة إلى الخارج، بينما وقفتُ عند باب الصيدلية ولوحتُ مُحييًا حازم، وانتظرت للحظات حتى تحركت بهم السيارة.
اليوم التالي كان موعد إجازتي الأسبوعية، لكنني استيقظت في العاشرة على صوت رنين الهاتف، طلب مني دكتور حسام أن أفتح الصيدلية التي ما زالت مغلقة. وهاتف شيماء مغلق، وحازم لايرد.
أحسست منذ لحظة دخولي إلى الصيدلية بانقباض خانق، هواء الصيدلية ثقيل وكالح، ووردات شيماء محنية الأعناق، كأنها مشنوقة على حواف الزجاجات، سَرَت برودة غريبة في ذراعي عندما وضعت إصبعي على جهاز تسجيل بصمة الحضور والانصراف، وشعرت كأن يدي اصطكت لدى عودتها بيدِ ثقيلة وباردة.
الساعات تمضي كئيبة، وهاتف شيماء مغلق، وحازم لا يرد.
والوردات تزداد ذبولًا، تنكمش، ثم تذوي شيئًا فشيئا.
وأنا بالكاد أقوم بمهمتي في تحضير الأدوية وإعداد الفواتير.
في الثانية تقريبًا تفاجأت بأحد زملائنا من الفريق المسائي يحضر، ويخبرني أن دكتور حسام طلب منه أن يكمل الدوام بدلًا مني، وما كدت أسأله عن السبب حتى جاءني صوت دكتور حسام على الهاتف حزينًا مختنقا، كأنه يناضل ليدفع الكلمات عبر شفتيه: محمد، أنا في العربية قدام الصيدلية، اطلع لي.
فتحت باب السيارة، وجلست، كان مطأطئ الرأس،ثم رفع وجهه، ونظر إلي، كانت عيناه في محجريهما مشتعلتين بحُمرة لاهبة، وتبدوان مثل كتلتين من حزنٍ ناريٍّ رهيب.
ناضل وناضل حتى تمكن من الكلام، وتمكن الكلام منه.
احنا هانروح اسكندرية يا محمد، قالها وسكت
وبقيتُ صامتًا أترقب، ثم تكلم بمشقة : انت عارف ان احنا كلنا ضيوف على الدنيا، وان الآجال………
التفتُّ هاربًا من النظر في وجهه، ومن هيئة الكلمات على شفتيه، وواصل كلامًا لم أسمعه، لم أتكلم، لم أصرخ، ولم أتحرك، ولا سقطت من عيني دمعة.
كنا قد دخلنا الإسكندرية حين هزّ دكتور حسام كتفي، وطلب مني أن أقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ربما ليتأكد أنني لم أصب بشلل مؤقت أو أني لم أفقد حاسة النطق، أعاد ما فعله أكثر من مرة حتى تمكنت أخيرًا من النطق بما دعاني إليه. لكنني لم أكن أسمع ما قاله بعدها، أو كأني لم أكن أسمع،
تمامًا كما كانت حالي وهو يأتي إلى بيتي بعد أيام، ويكلمني عن حاجة الصيدلية إليّ، وعن صعوبة أن يفقد العملُ أهم اثنين في الدوام الأهم، وأن يفقدهما في وقت واحد، لم يكن بمقدوري أن أقدم شيئًا أكثر من اتفاقي معه على أن أجريَ بعض المقابلات لاختيار بديلين لثنائية شيماء ومحمد، على أن أستمر معهما بضعة أيام حتى يستوعبا طبيعة العمل، لكن حتى هذا الاتفاق عجزتُ عن إتمامه؛ ففي اليوم الأول كنت أطلب شيئًا من المساعد، ناديته: حسن، لم يجبني، رفعت وجهي، حدق كل بوجه الآخر، بكى حسن بحرقة، فهمت أنه سمع شيماء تقول له عبارتها الثابتة: انت لسه هتقول لي نعم!
بكى وبكى، لكنني لم أبك، ولم تسقط من عيني ولو دمعة صامتة. فقط احتضنته ثم مضيت.
لملمت قليلًا من نفسي وأغراضي، ثم أغلقت شقتي، وغادرت القاهرة إلى محافظة مولدي، كنت أغلق عليّ باب غرفتي في بيت أمي بالمدينة طيلة النهار، وفي الليالي أذهب إلى القرية التي ولدت بها دون أن أمر على بيتنا القديم المغلق، أو اسيرَ في شوارع القرية مخافةَ أن ألتقي بأحد يعرفني فيكلمني، كنت أتسلل عبر طريق تتلوى وسط الزراعات حتى تنتهى إلى ترعة تمر بحقول أعمامي وأجدادي، أعبر قنطرة صغيرة حتى أصل إلى صفصافة هناك على حافة الجسر، ألجئُ ظهري إليها وأحاول أن أعيد لعينيَّ ذاكرة البكاء. لَكَم جئت في طفولتي إلى هنا لأستند إلى جذعها وأبكي حين كانت تزورني أحزاني الطفلة، والآن أبحث عن البكاء دون جدوى، الآن أحلم -فقط- بقليل من الدمعات يا شيماء.
عدت إلى القاهرة لعلي أنسى حلمي بالبكاء، وفي القاهرة كثيرًا ما ننسى.
توقفت السيارة أمام المركز التجاري القريب من الصيدلية بعدما طلبت من السائق أن ينتظرني لدقائق.
مصري وللا سويسري؟
– سويسري من فضلك، شكرت البائع، ثم اشتريت باقة ورد من المحل المجاور له في المركز التجاري ذاته، وعدت للسيارة واستأنفنا الطريق.
بعد دقائق كنت أدق الجرس، فتح أحد الحاضرين الباب، سألته عن حازم، لحظات وقابلني حازم في طرقة مؤدية إلى الصالة، تعانقنا بحرارة، وفور وصولنا إلى الصالة سمحَت زاوية وقوفي لعينيَّ أن تقعا على ذراع مفرودة ذات كُم أزرق حريري، تنتهي بكف ذات أصابع طويلة وأظافر تشبه الأهلٌَة. كانت الكف ترتاح على حافة إصِّيصٍ يستقر في حلقةٍ واسعة يشكلها القضيب الحديدي الذي يمتد مع سور الشرفة ويستدير كل بضعة سنتيمرات لتستقر فيه أصص الورد على مسافات متساوية.
وقبل أن ينادي يارا، كانت صاحبة الفستان الأزرق تلتفت بسرعةٍ تشي بأنها سمعت حازم وقد بدأ يقدمني للحضور، تقابلت عيوننا، تسمرت نظرتُنا، لمعَت اللآلئُ في عينيها السوداوين، ارتجفت شفتاها، وغادرتهما الحروف واهنة،
عمو محمد، لم أكن أسمع صوتها المختنق، لكنني رأيت الحروف على شفتيها الراجفتين وهي تقول:
انت لسه هتقول لي نعم؟!
وكأنه لا زمن يلزم لعبور المسافة بين الشرفة والصالة، أو كأنه لا مسافة، قبل أن يرتد إلى أحدنا طرفه كانت دموع يارا ونهنهاتها تشق سترتي الزرقاء، كتفي، وصدري، وضلوعي، تشرخ قلبي، أبكي، أخيرًا أبكي شيماء، أبكيها ويارا تدفن وجهها في صدري وسط دموع حازم والعريس والحاضرين. تتقدم سيدة عجوز عرفتُ أنها جدة العريس: صلوا ع النبي يا ولاد، ادخلي يا يارا ظبطي الميك اب، وتعالي نفرح، خرجت يارا بعد قليل وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة دامعة، وتعللت أنا بعد مرور ساعة بأن لدي موعدًا مهمًا، أخرجت هاتفي وطلبت سيارة، حددت نقطة الوصول عند الصيدلية، أعطيت يارا الشيكولاتة. سويسري يا عمو؟ قالت مبتسمة.
– سويسري يا يارا.
وعدتها وحازم بزيارة قبل سفرهما الذي يحين بعد أسبوع.
على الحوض المربع الشكل جلست أحدق بعينين ثابتتين على باب الصيدلية التي عرفت من حازم أن دكتور حسام باعها، كانت مغلقة، وبدا لي من الخارج أن أصحابها الجدد يُجرون بعض التجديدات، وهِمتُ أتأمل الزمن والباب المغلق والموت والحياة. لا أعرف كيف مرت الدقائق التي مكثتها، ولا كم كان عددها، ربما جاوز الأربعين، واقترب من الخمسين. طلبتُ سيارةً لتوصيلي، وتحركت لأنتظرها على حافة الطريق، وبينما أنظر في شاشة هاتفي، وأتابع أن بينها وبيني دقائق، توقفَت أمامي سيارة أخري، وترجل عنها السائق قائلًا: ازيك يا دكتور، نظرت، كان السائق الذي أوصلني إلى بيت شيماء، استطرد: معايا حد هاوصله، لكن أنا ساكن قريب جدا منك