خيط الدم في كفّ للاّ صفية

خيط الدم في كفّ للاّ صفية

  •  محمد نجيب الهاني

تقول الجدّات في قرية الذوايح إنّ الشمس تأخّرت يومًا في طلوعها، حين وقفت “للاّ صفية” على عتبة المقام القديم تُكفّن رضيعًا لم يولد بعد

القرية صغيرة منسية في الخاصرة الوعرة للجبل.. لا تُرى في الخرائط ولا تُذكر في النشرات الجوية، لكن فيها مقامٌ يلمع في الليل كعَين قطّ جائع يسمّونه قبر العهد.

في الذوايح لا يُقاس الزمن بالساعات بل بمواسم الزيت، وموعد الحصاد، وتاريخ الليلة التي انفجر فيها الحطب دون نار في بيت الحطاب… ومنذ تلك الحادثة، لم تعد القرية كما كانت.

في الذوايح كانت “للاّ صفية” سيّدة المقام… لم تكن وليّة ولا عالِمة، فقط امرأة قادمة من جهة البحر، نازحة من شيء لا اسم له، سكنت في كوخٍ صغير قرب العين الجافة.

لم يكن لها من متاع الدنيا غير مِبخرة صدئة، ووشمٍ غريب على معصمها، وقطّ رماديّ ينام في ظلّها.

الناس قالوا إنّها ترى الأرواح… وإنّها تهمس للخرفان قبل الذبح لتسري الطمأنينة في جلودها.

وكلّما مرض أحدهم، قالت الجارات: “اذهبوا بها إلى للاّ صفية، عندها بخور السلالة.”

لكنّ الغريب في كلّ هذا أنّ صفية لم تكن تتكلم… كانت تكتب على الرمل، وتفهمها الطير.

جاء “فرج”، الطالب في كلية البيولوجيا، إلى القرية ليزور جدّه المريض، وكان لا يؤمن بالخرافة، ولا بفكرة أن تُشفى الروح بماءٍ أو دخان..

حين قالت له عمّته:

اذهب إلى صفية، إنها تعرف إن كنت ستشفى أم لا…”

ضحك وقال:

من يعرف الطب لا يخاف من المجهول.”

لكنه ذهب بدافع الفضول، وهناك رآها… كانت تجلس قرب القبر وتذرّ شيئًا أبيض في الهواء، ولما اقترب، كتبت على الأرض كلمة واحدة:

ارجع قبل الغروب، وإلّا حملت في كفّك ما لا يُحمل.”

ضحك، وصفّق بيده، وهمس لنفسه بسخرية:

سأعود ليلاً إذًا… فقط لأرى ماذا سيحصل.”

في تلك الليلة، حدث ما لم يكن في الحسبان

انطفأت كلّ مصابيح القرية، وانشقّت السماء عن لونٍ أحمر قانٍ، وبدأت الحيوانات تصرخ كأنّها تُساق للموت.

ثم خرج أهل الذوايح ليجدوا القبر مضاءً، وفي قلب الضوء “صفية” تحمل خيطًا من الدم يسيل من كفّها، ترفعه نحو الغيم وتهمس:

هذا من أجل أن يعود من غادر… ويُغلق الباب الذي لا يُرى.”

لم يُرَ “فرج” بعد تلك الليلة

لكن بعدها، كلّما مرض طفل، ونام قرب نافذة تُطلّ على الوادي، يسمع صوت امرأة تهمس له باسمين: اسم جدّته… واسم ذلك الذي عاد خلسة ولم يُرَ بعد ذلك

ثم يستفيق معافًى..

الناس نسوا الحكاية، لكن القبر ما زال مضيئًا في الليالي المقمرة، والقطّ الرماديّ ما زال يحرُس الباب، ينتظر.

وكل عيد، تخرج امرأة مسنّة من أحد البيوت، تذرّ رمادًا على العتبة، وتهمس:

يا من كنتَ هنا، لا تأتِ إلا حين نغلق أعيننا ولا نبصر الخرافة.”

من مخطوط خرائط الرعب

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :