سرد يتقفى أثر الوجع والهوية في دروب التاريخ المنسي

محمد نجيب هاني
في روايته “الخلخال” الصادرة عن دار نقوش عربية، يقدم الروائي التونسي حسنين بن عمو عملاً روائياً فريدا يُؤثث به مشروعه السردي التاريخي الذي راكم فيه تجربة لافتة عبر روايات مثل “عام الفزوع 1864″، “باب العلوج”، و**”الموريسكية”** وغيرها.. إنّه مشروع ينهل من الذاكرة الجمعية التونسية ويعيد تشكيل لحظات مفصلية من التاريخ الشعبي والسياسي معيداً الاعتبار إلى الهامشي والمنسي والمُقصى في السرديات الرسمية.
أسلوب السرد: شاعرية التاريخ ومزاج الحكاية
ما يميّز سرد حسنين بن عمو هو قدرته الفذة على نسج التاريخ بلغة شفيفة تنوس بين الوثائقي والتخييلي، دون أن تفقد الرواية طابعها الإنساني. في “الخلخال”، لا يكتفي الكاتب بتقديم حكاية حب أو مغامرة فردية، بل يحيك نسيجًا سرديًا متعدّد الطبقات، تتحرّك خلاله الشخصيات في فضاء تاريخي معقّد يَطفح بالصراع الطبقي والاضطهاد السياسي والخيانات الصغيرة والكبيرة. وبلغة رشيقة ذات نفس شعري أحيانًا، يلتقط الكاتب جزئيات الحياة اليومية والبذخ الطبقي والانفعالات البشرية، ليقدّم للقارئ لوحة نابضة تُشبه فسيفساء تونس القرن التاسع عشر.
جغرافيا السرد: من الكاف إلى قرقنة
تتنوع الأمكنة في الرواية بين الريف والمدينة، وتتقاطع جغرافيا الحكي مع الذاكرة العاطفية للشخصيات. فنحن أمام ريف الكاف بجباله وطرقه الوعرة وخصومات أهله وشيخ عربانه، وأمام بساتين منوبة الهادئة، وجزيرة قرقنة التي تأوي في أطرافها الهاربة زينة، وكأنّ المكان يتحوّل إلى مأوى رمزي للنجاة من جحيم المدينة. في مقابل ذلك، ترسم الرواية تفاصيل المدينة العتيقة بأزقتها الضيقة وسوقها وصياغيها وحاناتها، حيث تنهض شخصيات مثل “الياهو” و”جوزيف” في قلب المشهد، ويظهر قصر القصبة بالكاف وقصر الباي كرمزين للسلطة والتسلّط.
شخصيات الرواية: وجوه الوجع والتحوّلات
زينة: الخلخال الذي قاد الثورة
زينة، المرأة التي أحبها الجميع، لم تكن مجرد شخصية نسائية في الرواية، بل رمزًا للجسد المقاوم، للأنوثة الثائرة. جمالها هو لعنتها، و”خلخالها” هو الإشارة التي تكثّف هذا المزيج من العاطفة والتمرّد. إنها تجسيد حي للمرأة التي يتحوّل جسدها إلى ساحة للصراع بين الذكورة المتسلطة والرجولة النبيلة.
شخصية سي عباس ..
من الشخصيات اللافتة أيضا في الرواية شخصية سي عباس، التاجر المعروف بعشقه للجنس اللطيف، والذي لا يحسب في سلوكه حسابات سوى لما تمليه عليه نزواته ورغباته اللحظية.
رجل أنفق عمره في اقتناص المتع واعتقد أن المال يضمن له الحب والهيبة غير مدرك أن الرغبات حين تتجاوز حدّها تُصبح لعنة.
لقد أحب حورية كما يُحب التاجر بضاعته النفيسة، واشترى من أجلها الخلخال.. ذاك الخلخال الذي قاده إلى الهاوية، فلم يخسر فقط المال بل خسرها لصالح يوسف ربيبه الذي رأى فيه امتدادًا له، فانقلب عليه الزمن ليجد نفسه مجرد ظل باهت في نهاية المطاف.. انهيار سي عباس كان انهيارًا للرغبة المتأخرة حين تصطدم بجبروت الزمن والقدر، وكان درسًا ساخرًا في أن من لا يُجيد الحساب في العاطفة، يدفع الثمن أفدح في الحياة.
أحمد الأشهب: الفارس المطارد
الفارس الباش أحمد الأشهب لا يقل عمقًا عنها؛ فارس تائه بين واجب الانتقام ونداء الحب، يتحول إلى رمز للبطولة اليتيمة في زمن الخيانة. حركته في السرد ليست فقط جسدية عبر الأمكنة، بل نفسية وروحية في سعيه لتصحيح ميزان العدالة المفقود.
عمار بوكربة: من المكر إلى النبل
أما عمار بوكربة، ذلك الرجل القادم من أعماق الريف، فيُعدّ إحدى الشخصيات المفصلية. مكره في البداية هو آلية دفاع طبقية، لكنه ينقلب مع تحولات الرواية إلى رجل شهامة وطيبة، في مشهد تحوّل نفسي دقيق يرصد الكاتب تفاصيله دون إسراف أو أحكام جاهزة.
الياهو وجوزيف: حضور اليهودي كمكون اجتماعي
في ملامح الياهو الصيّاغ اليهودي، نجد نموذجًا لتلك الشخصيات التونسية اليهودية التي انخرطت في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وهو شخصية ذكية ومحورية، تشهد لحظات تأزّم وتورّط، لكنها تظل تمثّل بعدًا من أبعاد التنوّع في المجتمع التونسي التقليدي. كذلك شخصية جوزيف، صاحب الحانة في الكاف، وهي شخصية درامية بامتياز، تتأرجح بين الكوميديا والعبث، لكنها تحضر بوصفها ضميرًا هامشيًا لحياة الكاف الموازية، حيث تتقاطع الحكايات والمصائر.
شيخ العربان: شهامة لها حساب
شخصية شيخ العربان تقدم مزيجًا بين الشهامة والنكاية. فتدخله إلى جانب أحمد الأشهب وزينة لم يكن نابعًا فقط من الأخلاق أو الأعراف، بل كذلك انتقامًا غير مباشر من البايات الذين مارسوا عليه الإذلال. وهنا تتجلّى براعة الكاتب في خلق شخصيات لا تُختزل في بعد واحد.
تأويل العنوان: “الخلخال” كرمز مزدوج
الخلخال ليس مجرد زينة نسائية، بل هو في الرواية رمز مُعقّد للهوية والجاذبية والخطر والدم. هو علامة وجود زينة، لكنه أيضًا إشارة إلى الفتنة التي تلهب العقول، والخراب الذي يطول الجميع. وهكذا يتحوّل العنوان من دلالة مادية إلى رمز فلسفي لماهية السلطة والهوى والقدر في حياة الشخصيات.
بين الحب والسياسة: رواية لا تخشى الاشتباك
لا تكتفي الرواية بملاحقة العلاقات العاطفية بين زينة وأحمد أو جمر الغيرة بين الرجال، بل تغوص في لعبة السلطة والصراع الطبقي. فـ”باي المحال” ليس فقط خصمًا للحب، بل هو رمز لبنية استبدادية تقمع الضعفاء وتطارد الفوارس وتستحوذ على النساء. من هنا، تتخذ الرواية بعدًا سياسيًا لافتًا، دون أن تقع في المباشرة، بل عبر حبكة تتّسع لتستوعب تداخل الحب والسياسة والدين والعرق.
في الختام..
“الخلخال” ليست رواية سهلة، إنها كتابة على حافة السكين، تشتبك مع التاريخ من موقع نقدي وتستعيد شخصيات من الظل لتضعها في قلب الضوء.
بأسلوبه الخاص يواصل حسنين بن عمو مشروعه في تأريخ المهمّش والمنسي والمقموع، عبر سردٍ حيّ، موثّق، لكنه تخييلي بامتياز. رواية تُذكّرنا بأن الأدب الكبير هو القادر على قول أشياء كبيرة بصمت سردي عميق.
السيرة الذاتية للكاتب
وُلد الروائي التونسي حسنين بن عمو في مدينة دار شعبان الفهري بولاية نابل في الشمال الشرقي التونسي وكان شغوفًا منذ شبابه بقراءة كتب التاريخ والمخطوطات.. بدأ مسيرته الأدبية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي من خلال كتابة القصص القصيرة التي تناولت ملامح تاريخية من مدينة تونس، وقد لاقت استحسانًا واسعًا من القراء والنقاد، مما دفعه إلى مواصلة مغامرته في الكتابة التاريخية بصيغة روائية. تميزت أعماله بالتعمق في الذاكرة الوطنية واستنطاق المسكوت عنه من وقائع وتفاصيل التاريخ التونسي.
من أهم مؤلفاته؛ رحمانة، عام الفزوع، باب العلوج، الكرّوسة…
_________________
هوامش:
1. حسنين بن عمو، الخلخال، نقوش عربية، الطبعة الثالثة، 270 صفحة.
2. للمزيد عن الكاتب، انظر: رواية عام الفزوع 1864، وباب العلوج، والموريسكية، ضمن نفس المشروع الروائي.
3. حول علاقة الرواية بالتاريخ الشعبي التونسي، يمكن مراجعة أعمال الكاتب في رصد الحقبة الحسينية ومجتمع العسكر والبلاط.














