عين الشرشارة

عين الشرشارة

  • محمد نجيب الهاني

في سفح جبل “السمّامة” على أطراف ولاية سيدي بوزيد تنتصب قرية صغيرة تُدعى الشرشارة، لا لشيء إلا لأن بها عين ماء كانت تخرُّ أيام الشتاء كأنها تُشير بالأصابع ثم تخفت صيفًا كأنها تبتلع نفسها. نعم هي قرية نصفها في الأرض ونصفها في الذاكرة.. لا طريق مُعبّدة تؤدي إليها، بل مسالك ترابية تتذكّر العربات أكثر من السيارات، والريح فيها لا تأتي من البحر بل من صدور الغنم.

في الشرشارة، لا يحدث شيء يُذكر… إلا عندما تُصاب الأرض بالخرس أو يتأخّر المطر عن موسمه، عندها يشير الكبار نحو كوخٍ معزول على حافة القرية ويهمسون:

امشِ لدار للاّ عيشوشة… هي تعرف وين مشى الغيم“.

للاّ عيشوشة لم تكن “وليّة” بالمعنى الذي يُتلى في المواسم، بل امرأة بلغت الثمانين دون أن تنقصها شعرة من رأسها. تغزل الصوف وتقرأ آياتٍ في الخفاء، وتضع الخزامى في الماء وتقول: “هذا دواء للنسيان“.

يقولون إنها كانت في شبابها ترعى الغنم في الربايع، وذات مساء ضاعت منها نعجة، فجلست تبكي تحت زيتونة، وحين استيقظت وجدت النعجة عائدة وخلفها ذئب ميت… ومنذ ذلك اليوم لم يخالفها شيء من مخلوقات الله.

عاد أنور من العاصمة إلى الشرشارة بعد أن سُدّت دونه أبواب التوظيف. عاد مثل من فقد حجّته في المدينة، يحمل شهادته الجامعية في الجغرافيا، وجيوبه فارغة إلا من كتيب صغير عنوانه:

العقل ضد الأسطورة“.

كان لا يُؤمن إلا بالأرقام، ويضحك عندما يسمع نساء القرية يقلن:

رجل للا عيشوشة يشرب الدخان من فمه ويخرّجه من عينيه وقت الغضب!”

أو:

هي تشوف القمح وهو مازال في سباته تحت التّراب!”

يقول أنور ساخرًا:

العقل مكيالُ الذهب… أما أنتم تزنون بالماء!”

لكن ذات ليلة، مرض ابن أخته الصغير، ولم يجدوا الدواء في المستوصف الوحيد، والطبيب المناوب قال إن الحالة تستوجب النقل إلى سيدي بوزيد… ولا سيارة تعمل ليلاً.

قالت أخته، وهي ترتجف قرب الفراش:

نهزّو لولد لـلّا عيشوشة؟

أجاب أنور حادًّا:

ما ثماش سحر ينفع! عندكم معجزة؟

لكنّ الصغير بدأ يختنق… وفي لحظة ضياع، حمله أنور على كتفيه وركض نحو الكوخ.

كوخها كان مثل تابوت مضاء بشمعة.. نظرت إليه ولم تبتسم. وضعت يدها على رأس الصغير وقالت:

ولدك ما فيهوش مرض… فيه عين من فم قريبة، وحدها ما تحبّش تفرح لحدّ“.

تمتم أنور

تخلويض “…”

لكنها رفعت إصبعها نحوه وقالت بصوت منخفض كأنّه قادم من كهف:

هَـوِّن صوتك… العين تسمع.”

ثم رشّت الصغير بماء فيه زعتر وقرأت، وأمرتهم أن لا يلتفتوا خلفهم في طريق العودة.

في الصباح… نهض الطفل كأنّه لم يُمسّ.

لم يقل أنور شيئًا.. لكنه بدأ يزور الجبل وحيدًا… يقف ساعاتٍ أمام الشجرة التي بكى تحتها الناسُ قديمًا، ويسأل الريح:

هل كلّ شيء وهم؟

بعد أشهر، اختفت للاّ عيشوشة.

قالوا إنها ماتت، وقال آخرون إنها دخلت في الحائط الخلفي لكوخها ولم تخرج.. وبعضهم أقسم أنه رآها تسير فوق الماء عند سدّ سيدي سعد في ليلة مطرٍ غريبة.

أما أنور… فقد غادر القرية دون أن يُودّع أحدًا.. ترك ورقة صغيرة فوق سريره كتب فيها:

ليس كلّ ما لا يُقاس مزيّف… بعض الغيبيّة ليست خرافة بل حنانٌ مجهول المصدر. سامحيني يا شرشارة… سأسكن مدينةً لا يُخفى فيها الضوء عن العيون.”

ومنذ ذلك الحين، لم يره أحد.

لكن أمّه، في كل عيد، تُخرج زربية حمراء كانت تخصّ للاّ عيشوشة، وتنشرها تحت الزيتونة، وتضع عليها كأس ماء، وسبع نوى بلح، وتهمس:

رجّعلي ولدي… كانك تعرفي وين مشى الغيم.”

#خرائط_الرعب

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :