خاص / تونس / متابعة نيفين الهوني
عندما غنّت قرطاج باللهجة الإماراتية
في مساء ختامي لمهرجان قرطاج الدولي في دورته 59 ، أطلت الفنانة الإماراتية أحلام الشامسي التي كانت ضيفةً على ذات المسرح قبل ثمانية وعشرين عامًا على جمهورها الذي تجاوز سبعة آلاف عاشق للفن ، حاملة بين صوتها وألحانها رسالة حب ووفاء، حيث ارتجّت قلوبهم مع كل نغمة وكأن المسرح بأكمله تنفس الموسيقى في انسجام تام وقد افتتحت السهرة بأغنية “نويالك على نية”، كتحية امتنان للجمهور التونسي، متوشحة بالعلم، لتعلن بداية الرحلة مع فرقة المايسترو وليد فايد إلى عوالم الأغنية الخليجية الأصيلة حيث تتابعت بعدها باقة من الأغاني التي شكلت تاريخًا موسيقيًا حيًّا عشناه فعشقناه: “مثير”، “بطلنا نحب”، “ما يصح إلا الصحيح”، “تدري ليش ازعل عليك” “عايش حياتك”، “ليه مضايق”، وكل أغنية كانت كقصيدة مترابطة، تغزل المشاعر بين الفنانة وجمهورها، وتعيد ترتيب القلب على إيقاع الطرب الخليجي حيث تمازجت أنغام الفن مع عبق التاريخ لتعلن بداية الرحلة مع فرقة المايسترو وليد فايد إلى عوالم الأغنية الخليجية الأصيلة ، وفي تحيتها للجمهور التونسي قالت الشامسي “أهلي أهل تونس الغاليين، جئتكم من دار زايد بكل حب وشوق، وحشتوني برشا، وجودي اليوم هو لقاء القلوب، وقلبي مشتاق لكم.” وقد تفاعل الجمهور معها بحفاوةٍ بالغة، حيث ردّدوا الزغاريد التونسية، تعبيرًا عن فرحتهم بعودتها.

كما أنها قدّمت أغنيةً تونسية تراثية سبق أن قدمتها على مسرح قرطاج سابقا حملت عنوان “ع المقياس نغني” تكريمًا لهم، ما أضفى على الحفل طابعًا خاصًا ومؤثرًا. وفي لحظةٍ عفوية، شاركها طفلٌ صغير يُعد من أصغر معجبيها في الحفل، الغناء على المسرح، ،وكتبت أحلام عبر صفحتها الرسمية بعد الحفل “تونس الخضراء… يا بهجة الروح ونغمة الحنين. بعد 28 سنة غياب، رجعتلكم بشوق كبير وحلم قديم غنّينا في حضن قرطاج العريق.”وأضافت: “في سهرة الختام… سهرة حب وفن ما تتنساش، كانت ليلة مثل الحلم… محلاكم… باهيين… باهييييين. ولم تغفل أحلام أن تكرم معلمها الفني الأول، أنور عبد الله، مقدمًا لها الدعم منذ بداياتها، حيث خصصت له نصًا مؤثرًا قبل انطلاق الحفل،.”لقد كانت تلك الليلة، بحق، لقاءً بين القلوب، جسّدته كلمات أحلام وأصداء جمهور قرطاج الذي خرج سعيدا ومنتشيا بالفرح وأشاد الجمهور في لقاءات نشرت عبر الشبكة العنكبوتية بالعرض باعتباره مزجًا متقنًا بين الحداثة والتراث، بين الطرب العاطفي والإيقاعات المبتكرة، مؤكدين أن ليلة أحلام في قرطاج لم تكن مجرد حفل غنائي، بل لوحة موسيقية حيّة، تحمل في ألوانها روح الفنانة وجمهورها معًا.

افتتاح تراثي لذاكرة من نستولوجيا
وأفتتح المهرجان في دورته التاسعة والخمسون والذي ختمت سهراته الفنية الفنانة الامارتية احلام بعرض فني موسيقي من أعماق الذاكرة التونسية، حمل توقيع الموسيقار محمد القرفي بعنوان “من قاع الخابية”. وهو عرض استثنائي استحضر أصواتًا خالدة مثل خميس الترنان، محمد التريكي، وعلي الرياحي، وقدّمها في صياغة أوركسترالية حديثة رافقها الأوركستر السمفوني التونسي وكورال أوبرا تونس والفرقة الوطنية للفنون الشعبية. حيث كان المشهد أشبه بسيمفونية عزفها القلب بذاكرة من نستولوجيا ، جعلت من قرطاج فضاءً جامعًا بين الجذور والإبداع المعاصر.
فسيفساء موسيقية محلية وعالمية في حوار بين الماضي والحاضر
وعلى امتداد شهر كامل، تنوعت سهرات المهرجان بين الأسماء التونسية والعربية والعالمية، في لوحة فسيفسائية ملونة من أصوات وأنماط مختلفة. وقد قدّم المهرجان تجارب مسرحية وموسيقية جديدة أعادت التفكير في معنى العرض الفني. و تجلّت في الدورة أصوات شبابية تبحث عن لغة جديدة، متجذّرة في التراث، منفتحة على المعاصرة، قادرة على مخاطبة جيل يعيش بين الذاكرة والحداثة فمن الفنانة التونسية لطيفة العرفاوي إلى الأنفَاس المبهرة للموسيقي اللبناني العالمي إبراهيم معلوف وهو الموسيقار وعازف البوق الشهير، يحمل الجنسية الفرنسية، رغم أصوله اللبنانية. لكن تأثير والدته الفرنسية، واضح حيث تربّى وتأثر بالبيئتين الثقافيتين، مما انعكس على موسيقاه التي تمزج بين الجاز والموسيقى العربية بمهارة ساحرة. مرورًا بليلة فلسطينية مع سانت ليفانت من “البساط الأحمر 2” لرياض الفهري إلى المسرحية الجريئة “بينومي S+1” لعزيز الجبالي ، وصولًا إلى عرض “تخيّل” لكريم الثليبي ، كما كان للجمهور العربي مواعيد مع نانسي عجرم ، نجوى كرم ، وآدم ، إلى ختام استعراضي عربي مع أحلام في تنوعٍ مدروس جمع بين الطرب والإيقاع العصري والغناء الشعبي. وهكذا أثبتت هذه الدورة، التي حملت شعار “قرط حدشت” (أي “المدينة الجديدة”)، مرة أخرى أن المهرجان ليس مجرد تظاهرة فنية، بل جسر حيّ بين الأزل والآن، بين التراث التونسي الضارب في الجذور والابتكار المعاصر المنفتح على العالم. لقد بدا وكأن قرطاج تستعيد روحها كل عام، لتبقى عنوانًا لذاكرة حيّة تكتب بالفن ما يعجز التاريخ عن احتوائه.

فلسطين… نبض دائم في قلب قرطاج
لم تكن الدورة عابرة سياسيًا، بل حملت في عمقها موقفًا ثقافيًا واضحًا من القضية الفلسطينية. من سهرة محمد عساف، إلى عرض الفنان الفلسطيني سانت ليفانت ، إلى المقطوعات التي أدرجها كل من الفنان التونسي محمد القرفي والمبدع التونسي كريم الثليبي، بدا المسرح القرطاجي كأنه يعلن، عبر الفن، تضامنًا يتجاوز الشعارات نحو فعلٍ رمزي مؤثر، مؤكدًا أن تونس لا تُساوم في القضية الأم فلسطين.
أصوات نقدية وأسئلة تنظيمية
رغم المديح الكبير الذي حظيت به برمجة الدورة لتنوعها وثرائها، فقد برزت أصوات ناقدة لبعض الخيارات، خصوصًا فيما تعلق بعرض هيلين سيغارا ، ومن جامايكا كي- ماني مارلي واللذان أُلغيا حفلهما لاحقًا مراعاة للموقف التونسي من القضية الفلسطينية. كما دعا بعض المتابعين إلى مزيد من التركيز على الجانب الصوتي والتقني لضمان انسجام التجربة الفنية مع عراقة المكان.

نجوى كرم … همس الليل على شفاه قرطاج
ستظل هذه الليلة محفورة في ذاكرة المهرجان حين اعتلت فيها شمس الأغنية اللبنانية نجوى كرم ركح المسرح الروماني لتمنح جمهورها سهرةً استثنائية نفدت تذاكرها قبل أيام، فغصّت مدارج قرطاج بأفئدةٍ متلهفة وصوتٍ أعاد للمدينة التاريخية بريقها الأبدي.وعلى مدى ساعتين ونصف، أهدت كرم باقة من أغنياتها الخالدة مثل “هيدا حكي”، “خلّيني شوفك بالليل”، و*”عاشقة أسمراني”*، في مزج مع جديدها من ألبوم “حالة طوارئ” لجمهورها الحبيب حيث تمازجت الإيقاعات مع التصفيقٍ المتواصل والهتافات التي لم تهدأ، حتى بدا الجمهور وكأنه شريكٌ في الغناء، يردد الكلمات بولهٍ عاطفي لا ينقطع في حوارمتناغم في عام 1997، نثرت نجوى كرم من أعماقها أغنية خلودٍ ووفاء، حملت عنوان “دايم عزك يا قرطاج”، كلماتها وقعت بحبر الشاعر عصام زغيب، وألحانها نسجها أنطوان الشعك، لتصبح قصيدة عشقٍ تتغنى بها القلوب عبر الزمان والمكان. ، و نداءٌ يتردد في أزقة قرطاج العتيقة، حيث تعانق الكلمة المكان، وتحنو الألحان على حضارة لا تموت وفي حفلها الأخير بقرطاج، عادت نجوى لتحيي هذه الأنشودة كما لو كانت شعلة لا تنطفئ، فاشتعل المسرح بوهج التفاعل، وتلاقى صوتها مع أصوات الحاضرين في جوقة واحدة من الحب والوفاء.
قالت بحبك يا تونس وردد الجمهور نحبوك برشا ثم بدأت تردّد كلمات الأغنية بحب واشتياق، ملأ المكان بحيوية لم تزل تروي قصة تلك الليلة التي احتضنت فيها قرطاج حضور نجوى وشاهدت كيف تتحول الكلمات إلى نغمٍ خالد، والذكرى إلى لحظةٍ لا تُنسى. فحين نغوص في أعماق أغنية “دايم عزك يا قرطاج”، نجد أنفسنا أمام أكثر من مجرد لحنٍ وكلمات، بل أمام سردٍ موسيقي ينبض بتاريخٍ مشترك وروحٍ لا تعرف الانطفاء. الأغنية، التي أبدع في كلماتها الشاعر عصام زغيب، هي قصيدة وطنية تحمل بين حروفها إشراقة المكان وعمق الانتماء. أما لحن أنطوان الشعك، فقد صاغ مقطوعته كأنه ينسج جدائل الريح بين الأعمدة الحجرية لقرطاج، راسماً بآلات الموسيقى صورة حية من الأصالة والحداثة. ونجوى كرم، بصوتها الذي يعبق بعبير الجبال والبحر، جعلت من الأغنية قصة تحكيها لكل من يحمل في قلبه حب الأرض، من لبنان إلى تونس، ومن صيدا إلى عليسة. لا تقتصر الأغنية على كونه تحية لمدينة، بل هي رسالة وفاء تتعانق فيها الذكريات مع الحاضر، لتروي قصص المحبة والتاريخ المشترك.وبذلك، تكون “دايم عزك يا قرطاج” أكثر من أغنية؛ هي نسيج من الذكريات، نبض من القلب، وتاريخ يغني للحاضر، تاركةً أثرها في كل من سمعها، وجعلت من الحفل احتفالًا روحيًا يجمع بين الماضي والحاضر، بين لبنان وتونس، بين نجوى وقلب الجمهور.ومع المواويل التراثية مثل “ميجانا” و*”كبرنا يا بيّ”*، تحوّلت الهواتف المضيئة إلى نجومٍ زاهية رسمت مشهدًا لن يُمحى. وفي تصريحات نجوى بعد الحفل في الندوة الصحافية التي اقيمت للصحافيين الحاضرين قالت : “قرطاج لا يستقبلني، بل يحتضنني…” وكل عودة إلى هذا المسرح هي محطة تميّز ونجاح.” وأضافت بابتسامة عريضة: “هذا المسرح بيتي، وبيننا حكاية عمر لا تُنسى.” تركت نجوى كرم بصمتها الذهبية على قرطاج، حيث رقص التاريخ على وقع صوتها، وغنّى الجمهور معها حكاية حبٍ عابرة للقارات.
نانسي عجرم في ليلة بيضاء تُعيد قرطاج إلى الطفولة
احتضن المسرح الروماني بقرطاج سهرةً ملائكية، كانت بطلتها النجمة اللبنانية نانسي عجرم، التي عادت إلى الركح بعد غياب، لتصوغ مع جمهورها واحدة من أجمل ليالي المهرجان الدولي في دورته الـ59. فمنذ اللحظة الأولى، حين أطلت بفستانٍ أبيض مضيء، بدا وكأنها تمشي على خيط من الحلم الممتد بين السماء ونحن على وقع الأضواء الخافتة وافتتحت نانسي السهرة بأغنيتها الشهيرة “بدنا نولّع الجو”، فاشتعلت الأجواء ، وتحوّل المسرح إلى فضاءٍ من الفرح الجماعي. تتابعت بعدها محطّات الطرب: “أخاصمك آه”، “يا طبطب”، و*”حبك سفاح”*، لتستعيد الجماهير معها لحظات من الذكريات الأولى في الحب والخذلان والفرح. أما جديدها من ألبوم “Nancy 11″، مثل “يا قلبو” و*”من نظرة”*، فقد بدا كرسائل موسيقية تُكتب على مقام المطر، تؤدى بروحٍ شاعرية أقرب إلى البوح منها إلى الغناء، وكأنها تراتيّل قصائد وجدانية على مسرحٍ يفيض عاطفة واشتياق. ما ميّز الحفل أن الجمهور لم يكن مجرّد مستمع، بل صار صوتًا إضافيًا في الفرقة. آلاف الحناجر ردّدت الكلمات بإتقان، والآلاف صفقوا على إيقاع واحد، في لحظة تحوّل فيها المدرج الروماني إلى جوقة عشقٍ جماعي.
نانسي لم تكتفِ بالغناء، بل خاطبت الحضور بصدقٍ وعفوية، فصارت المسافة بين الركح والمدارج جسرًا من المودّة. عند انتهاء الحفل، غادرت نانسي المسرح، لكن صوتها ظلّ معلّقًا في فضاء قرطاج، كعطرٍ يأبى أن يزول. تركت خلفها ليلةً بيضاء، ستظلّ في ذاكرة الجمهور فصلًا استثنائيًا من كتاب مهرجان قرطاج، حيث الغناء لغة الأرواح حين تعجز الكلمات.
سلام لغزة: حين يتحوّل الغناء إلى مرافعة وطنية
لم يكن المسرح الروماني في قرطاج مجرّد فضاء للاحتفال بالموسيقى، بل تحوّل إلى منصةٍ تشهد على التاريخ، حين صعد الفنان الفلسطيني محمد عساف ليقدّم عرضًا فنيًا أقرب إلى محكمة وجدانية تُحاكم النسيان وتُعلن الانتماء. كان الحفل جزءًا من الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي، لكنه بدا وكأنه دورة خاصة بالقضية الفلسطينية وحدها.فبدأ عساف بأغنيته الشهيرة “علّي الكوفية”، لتتحوّل الكوفية من قطعة قماش إلى راية عالية، تهتز فوق سبعة آلاف متفرج. في لحظة واحدة، صارت المدرجات ساحة هتاف جماعي، وصار الركح منصة نضال، حيث تعانقت الأصوات على شعار: “بالروح بالدم نفديك يا فلسطين”. حين انطلق بصوته العميق في “سلام لغزة”، بدا أن الأعمدة الرومانية نفسها ترتجف. الأغنية لم تكن مقطوعة موسيقية بقدر ما كانت صلاةً معلّقة في سماء قرطاج، تُشعل الذاكرة وتستحضر أوجاع مدينة محاصرة. ومع “دمي فلسطيني” ارتفع النبض الجماعي حتى صار المسرح كأنه شاهد حيّ على الحكاية الفلسطينية الممتدة من الدم إلى الخلود. أما عند أداء “موطني”، تماهى الحاضرون مع الأغنية حتى غدت نشيدًا مزدوجًا، يغني فيه التونسي والفلسطيني والمغربي واللبناني والسعودي والليبي والعراقي وكل الجنسيات الموجودة تلك الليلة معًا كما لو أن الوجدان العربي انصهر في صوت واحد. كانت لحظة نادرة، إذ لم يعد الجمهور مجرد مستمع، بل صار شريكًا في كتابة وحدة الأوطان في نشيد واحد ورغم طغيان البعد السياسي والوجداني على الحفل، لم يفقد عساف صرامته الفنية. صوته ظلّ متينًا، دافئًا، محكم الأداء، يتنقّل بين الشجن والعزيمة، وكأنه يخطّ عناوين الصحف بصوتٍ لا يعرف الرقابة. وقد أعلن أن كامل عائدات الحفل وأجره الشخصي سيُخصّصان لدعم غزة، ليحوّل الغناء إلى التزامٍ عملي، وليُثبت أن الفن حين يصدق يتحول إلى فعل مقاومة.ووثيقة هوية، وصرخة ذاكرة، ورسالة لا تموت ، تُعلن للعالم: نحن باقون… بالفن، بالصوت، وبالوطن.

بنوميS+1 في قرطاج: حين يصبح الركح مختبرًا جماعيًا للتفكير
على ركح المسرح الأثري بقرطاج كنا أيضا على موعد مع تجربة مسرحية غير مألوفة، حملت توقيع المخرج التونسي عزيز الجبالي بعنوان بنومي S+1، وعلى امتداد ساعتين ونصف، احتُجزت أنفاس الجمهور بين الصمت والضحك، في عرض للكوميديا السوداء كمرآة للوجع أثبت من خلاله الجبالي أن المسرح لا يزال قادرًا على استنطاق أكثر القضايا تعقيدًا في اسقاطات سياسية وسط فضاء مفتوح يتطلّب من العمل قوة فنية وفكرية استثنائية.
لم يُقدَّم الضحك هذه المرّة كأداة للتسلية العابرة، بل كأداة تحليل وكشف. فقد صاغ الجبالي عرضًا قائمًا على الكوميديا السوداء التي تُعرّي هشاشة الواقع التونسي الراهن: سياسيًا، اجتماعيًا، ونفسيًا. كل ضحكة كانت بمثابة صفعة، وكل سخرية كانت خيطًا يقود إلى أسئلة مربكة حول السلطة والهوية والدين والأبوية والصمت الجمعي. في نص جمع بين الاقتصاد في اللغة والثراء في المعنى وتميّز النص بصرامة لغوية واعية، اختزل الكلمات لكنه فجّر المعاني. لم يكن الهدف إثارة الجدل في ذاته، بل خلخلة البديهيات وكشف آليات التواطؤ اليومي الذي نمارسه أفرادًا وجماعات. النص بدا وكأنه حفرٌ في البنية العميقة للمجتمع التونسي على وجه الخصوص والعربي بصفة عامة، حيث تتجاور الطقوس الدينية مع خطاب السلطة، ويتشابك العنف الرمزي مع عنف الجماعة. وقوة العرض لم تكن في النص وحده، بل في الأداء الجماعي لاثني عشر ممثلًا وممثلة تماهوا في كيان واحد ونفس واحد دون أن يُفقد كل فرد خصوصيته. كان لكل ممثل لحظته الخاصة، لكن الانسجام العام ظل متماسكًا، ما يعكس اشتغالًا دقيقًا على إدارة التمثيل والتوزيع الركحي. تدرّج الأداء بين التعبير الجسدي، والارتجال المنضبط، والإلقاء الساخر، إلى الغوص في البُعد النفسي، ليجعل من كل شخصية مرآة لقلق جمعي يعكس هشاشة الواقع. فتحول العمل على المسرح من فضاء للاحتفال الجماعي إلى مختبر للتفكير. العرض لم يكن مجرد فرجة، بل مساءلة مفتوحة لزمن بكامله، كاشفًا قدرة المسرح على أن يكون حوارًا مع المجتمع لا مجرد انعكاس له. لقد برهن الجبالي وفريقه أن المسرح يمكن أن يعالج الواقع لا عبر الخطب والمواعظ، بل عبر الفنّ الذي يضعنا وجهًا لوجه أمام صمتنا المتواطئ. بنومي S+1 تجربة ستبقى محفورة في الذاكرة، لأنها تجرّأت على تحويل الأسئلة اليومية إلى مادة فنية نابضة. كتشريح جماعي للذات الانسانية، بين أحلامها المجهضة، وخيباتها المتكررة، وانكساراتها الصغيرة. لقد قدّم عزيز الجبالي عملاً يُذكّرنا بأن المسرح لا يُقاس بمدى التصفيق الذي يحصده، بل بقدرته على جعلنا نفكّر بعد انطفاء الأضواء.
قرطاج تُجدّد عهدها مع الخلود على صوت آدم
أما سهرة النجم اللبناني آدم الذي حل ضيفًا مميزًا في أولى مشاركاته في تونس، أمام جمهور قرطاج الذي ملاء المدرجات وحضر خصيصا قبل ساعات من العرض منتظرا نجمه المفضل بكل الحب فقد افتتحها بأغنية “نحنا سوا”، بعد أن ظهر على المسرح متوشحًا بالعلم التونسي ،. ثم توالت اغنياته التي شكّلت تاريخًا موسيقيًا حيًّا لعشاقه فقدم خلال حوالي ساعتين ، 17 أغنية منوعّة : “كيفك إنت”، “في حدا”، “أول حبيب”، “على بالي”، “خلص الدمع”، و**”آه يا حلو”**و كل أغنية كانت كقصيدة مترابطة، تغزل المشاعر بين الفنان وجمهوره، وتعيد ترتيب القلب على إيقاع الطرب.
ولم ينسَ آدم أن يحيي تراث الغناء العربي الكلاسيكي، مقدّمًا لمسات من الزمن الجميل عبر أغاني وردة الجزائرية، ميادة الحناوي، وذكرى محمد، وجورج وسوف وقد كشف آدم في ندوته الصحافية التي اقيمت قبل الحفل بيوم في نزل رماده بقمرت أنه رفض عروضًا سابقة للغناء في تونس، مفضّلًا أن تكون أولى خطواته على أرضها هي منصة مهرجان قرطاج الدولي، التي اعتبرها محطة بارزة في مسيرته الفنية الغنية بالتجارب والصخب .وتحدث آدم عن فرحته بلقاء جمهور قرطاج ، وعن انتظاره لحظة اللقاء التي ستضيء المسرح بحب متبادل، مؤكدًا أن الأمسية ستظل محفورة في ذاكرته، مثل أغنية لا ينتهي صداها، تتردد أصداؤها مع كل قلب عاش التجربة.














