- م. محمد الاطرش
الترند هذه الأيام في ليبيا بانخفاض سعر الدولار إلى حدود 6.8 دينار، وكأننا حققنا إنجازًا اقتصاديًا عظيمًا. لكن خلف هذا الهبوط تكمن حقيقة مُرّة: لا يمكن لقيمة العملة أن تستقر ما لم تُنفَّذ إصلاحات جذرية داخل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مصرف ليبيا المركزي ووزارات الاقتصاد والتخطيط والعمل.
أولاً: الاقتصاد الريعي… أصل الداء
لا تزال ليبيا تعتمد على النفط كمصدر وحيد للدخل القومي، دون أي محاولات حقيقية لتنويع مصادر الاقتصاد أو تحقيق نمو تنموي حتى بنسبة 1–2٪ سنويًا.
هذه الريعية المطلقة جعلت الاقتصاد هشًّا أمام أي اضطراب في أسعار النفط أو تقلبات سياسية، وأفقدت الدولة قدرتها على خلق قيمة إنتاجية حقيقية.
ثانيًا: الميزانية المعلقة… إدارة مالية بالقطارة
استمرار الصرف وفق مبدأ 1/12، أو كما وصفها البعض “2/24″، يعكس فشلًا في التوافق السياسي أكثر مما هو فشل اقتصادي.
غياب ميزانية موحدة يعني غياب الرؤية، وتشتت الموارد، واستنزافها في الإنفاق الجاري بدل التوجه نحو الاستثمار والإنتاج.
الأولوية اليوم يجب أن تكون لمصرف ليبيا المركزي لدفع نحو توحيد الميزانية وترشيد الإنفاق العام قبل أي إجراء نقدي.
ثالثًا: نزيف الحوالات العمالية… دولارات تهاجر
العمالة الأجنبية في ليبيا تُحوِّل مليارات الدولارات سنويًا إلى الخارج عبر قنوات غير رسمية، بسبب غياب نظام تحويلات منظم ومراقب.
هذه الأموال التي تُغادر السوق الليبي كان يمكن أن تُسهم في تنشيط الدورة الاقتصادية الداخلية لو تم توجيهها عبر النظام المصرفي الرسمي.
رابعًا: النظام الموازي… دولة مالية داخل الدولة
ما يُسمى بـ”السوق الموازي” لم يعد مجرد سوق لتبديل العملات، بل أصبح نظامًا ماليًا موازيًا يتفوق على النظام المصرفي الرسمي من حيث الحجم والنشاط.
يملك هذا النظام شبكات دولية تمتد إلى تركيا ودبي ودول الجوار، مما حول تجار العملة إلى مافيا اقتصادية دولية تسيطر على تدفقات النقد الأجنبي وتُضعف أي محاولة للإصلاح المالي.
خامسًا: النفط والمرتبات… الحلقة المفرغة
كل ارتفاع في إنتاج النفط يُترجم مباشرة إلى زيادة في الإنفاق الحكومي والمرتبات، دون استثمار فعلي في البنية التحتية أو القطاعات الإنتاجية.
بهذا الشكل، يتحول النفط من مصدر ثروة إلى وقود لعجز الموازنة، ويبقى المواطن رهينة بين سعر الصرف والرواتب.
سادسًا: ضعف الرقابة والعقوبات… بيئة خصبة للفساد
غياب الرقابة الإدارية والمالية الفاعلة، مع ضعف تطبيق القوانين والعقوبات على الفاسدين، يجعل أي إصلاح اقتصادي مجرد حبر على ورق.
فلا يمكن تحقيق استقرار نقدي دون شفافية ومساءلة ومحاسبة حقيقية داخل المؤسسات العامة.
أي انخفاض مؤقت في سعر الدولار دون إصلاحات مؤسسية هو فقاعة مالية سرعان ما تنفجر.
ولكي يتحول هذا الهبوط إلى تحسن مستدام في قيمة الدينار الليبي، لا بد من:
- إطلاق حزمة إصلاحات مالية واقتصادية متكاملة تشمل النظام المصرفي والمالي والرقابي.
- إعادة هيكلة الدعم والإنفاق العام بما يضمن العدالة والكفاءة.
- تنويع الاقتصاد عبر دعم القطاع الخاص والمشروعات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة.
- تنظيم العمالة والحوالات من خلال قنوات مصرفية رسمية.
- رفع كفاءة الجباية الضريبية لزيادة الإيرادات المحلية وتقليل الاعتماد على النفط.
الأزمات الاقتصادية ليست بدعة، فقد مرت بها دول كثيرة وخرجت منها بخطط إصلاح جريئة.
وليبيا قادرة — إن أرادت — أن تستعين بـبيوت الخبرة الدولية وتطلق مشروعًا وطنيًا للإنقاذ الاقتصادي.
فالدينار لن يُنقَذ بالشعارات أو المؤتمرات او حتى بفتح مكاتب صرافة، بل بالعقل، والإدارة، والشفافية، والإرادة














