الأرواح الضائعة بين الوصمة والغياب: رحلة المرضى النفسيين في الجنوب الليبي
تحقيق : منى توكاشها
في الجنوب الليبي، حيث غياب الدولة والمراكز الصحية محسوس، تتحوّل الأمراض النفسية إلى وصمة اجتماعية تطارد المرضى وأسرهم، وتتركهم عُرضة للمعاناة دون دعم أو علاج. في مجتمع تُسيطر عليه مفاهيم العيب والخجل، يُفضي الاعتراف بالمرض النفسي غالبًا إلى نظرات الشفقة أو الإدانة، ويضطر كثيرون أولًا إلى اللجوء للمشايخ أو العلاجات الشعبية قبل التفكير في الأخصائيين النفسيين.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الصحة النفسية في ليبيا تواجه أزمة عميقة مستمرة منذ أكثر من عقد.
أظهرت مراجعة منهجية شملت 33 دراسة بين عامي 2011 و2023 أن نحو 25% من الليبيين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، و23% من الاكتئاب، و15% من القلق، وهي نسب تفوق المعدلات العالمية (وفق تقرير نشر في المجلة الليبية للطب، 2023؛ Libyan Journal of Medicine, 2023).

كما بينت دراسات على طلاب الجامعات أن أكثر من 40% من طلاب الصيدلة أظهروا أعراضًا اكتئابية، بينما عانى ثلثي طلاب الطب خلال الحرب من القلق، وأفاد أكثر من خمسهم بوجود أفكار انتحارية (حسب تقرير نشر في BJPsych International, 2016; المجلة البريطانية للطب النفسي الدولي، 2016).
ورغم هذا العبء الكبير، لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في ليبيا 0.2 لكل 100 ألف نسمة، ولا توجد سوى مستشفيين رئيسيين في طرابلس وبنغازي يقدمان ما يقارب 2000 سرير فقط، فيما تُترك المناطق الأخرى، وخصوصًا الجنوب، دون خدمات تذكر (وفق تقرير نشر في BJPsych International, 2016; المجلة البريطانية للطب النفسي الدولي، 2016 والمجلة الليبية للطب، 2013؛ Libyan Journal of Medicine, 2013).
ويعاني القطاع من ضعف البنية التحتية، ونقص الأدوية، وانعدام التغطية الجغرافية، إلى جانب وصمة اجتماعية قوية تجعل المرضى وأسرهم يترددون في طلب المساعدة.

في هذا السياق، يظل الجنوب الليبي يصارع في ظلام الإهمال، ما يجعل الصحة النفسية إحدى أهم قضايا العصر وأكثرها إلحاحًا.
وفي هذا التحقيق، نستعرض قصصًا تُظهر كيف يُسهم غياب الوعي والدعم الأسري والمؤسسات المتخصصة في تدمير حياة أفراد أبرياء، من واقع تجارب من الجنوب الليبي.
متاهة العقل والوصمة: قصص الجنوب الليبي المنسية.
الشاب الذي ضاع بين الوصم والجهل النفسي.
“كان شابًا وسيمًا، رياضيًا، وذكيًا في دراسته، يدرس الطب ويحمل القرآن في قلبه.” هكذا تصفه ابنة عمته، وهي تروي حكايته بصوت يملؤه الحزن.
لكن حياة هذا الشاب الطموح، الذي جاء من مدينة حدودية، تغيرت تمامًا عندما وقع في فخ رفاق السوء في الجامعة، حيث وضعوا له جرعة كبيرة من الترامادول. بدأت رحلة انهياره بنوبات صراخ غريبة، دفعته عائلته إلى مستشفى الأمراض النفسية في بنغازي، حيث تحسنت حالته تدريجيًا.

لكن انتكاسته لم تكن بسبب المرض، بل بسبب “خوف والده من الوصم الاجتماعي، ورفضه الاعتراف بأن ابنه يعاني من اضطراب نفسي حقيقي”. أصرّ الأب على إخراجه من المستشفى، مؤكدًا أنه مسحور، وأن القرآن وحده سيخلصه.
منذ ذلك اليوم، قبل ست سنوات، تحوّل الشاب الطموح إلى جسد متحرك بظهر منحنٍ ولحية متشابكة، مُقيدًا بالسلاسل في المنزل، لأنه كلما تحرر، حاول الاعتداء على من حوله.
تضيف ابنة عمته بأسى: “ست سنوات ووالده يرفض العلاج الطبي، ويصر على الوهم بأن السحر هو السبب… كل هذا بسبب خوف العائلة من كلام الناس أكثر من خوفهم على حياته.”
اضطرابات نفسية وهشاشة الدعم الأسري: قصة “آمنة“
قصة “آمنة” لا تختلف كثيرًا في حجم مأساتها.
تروي صديقتها “خيرية عمر” عن صديقتها التي أحبّت زوجها وتزوجت عن قصة حب، قبل أن تنقلب حياتها رأسًا على عقب بعد خمس سنوات عندما اكتشفت زواجه من أخرى.
“بدأت آمنة تعاني من اضطرابات نفسية شديدة”، وتضيف خيرية: “أصبحت تقوم بأفعال غريبة وغير مفهومة: تخرج وحدها دون إخبار أحد، تستيقظ ليلًا وتصرخ أحيانًا، وتشغل الموسيقا وترقص عند الرابعة فجرًا”.

ورغم أن مظهرها كان طبيعيًا، أهملت أطفالها.
بعدما زاد الضغط النفسي عليها، قرر زوجها طلاقها، وهو ما جعلها أكثر هشاشة، حتى أنها حملت دون معرفة الأب. وبعد ولادتها، حُبست في المنزل وعُزلت عن محيطها، حتى وصل بها الأمر إلى الانتحار.
تختتم خيرية حديثها بحزن: “ماتت آمنة وهي تعاني من صمت المجتمع والوصمة الاجتماعية، التي لم تمنحها فرصة لتلقي العلاج النفسي والدعم الذي كانت في أمس الحاجة إليه.”
وتضيف أن قصتها تعكس كيف يمكن للاضطرابات النفسية أن تتحول إلى مأساة عندما يغيب الدعم الأسري والمجتمعي.
الشاب الذي حُرم من العلاج بعد صدمة الناتو.
“كان شابًا قوي البنية، مجندًا في الجيش الليبي، ملتزمًا ومنضبطًا، ويحلم بمستقبل مستقر”. هكذا يصف أحد رفاقه حالته قبل عام 2011، حيث شاهد رفاقه يسقطون أمام عينيه تحت قصف طائرات حلف الناتو.
“لم يرَ شيئًا كهذا من قبل؛ الأشلاء والدم، والصراخ، كلها مشاهد مزقت عقله ونفسه”، ومنذ ذلك اليوم، تغير تمامًا. دخل في حالة نفسية صعبة، أصابته نوبات هلع مستمرة وكوابيس وخوف دائم من أي صوت مرتفع.

كان بحاجة إلى علاج نفسي عاجل، لكن للأسف، لم يكن هناك أي مركز صحة نفسية في الجنوب.
يضيف قريبه بحسرة: “أهله كانوا يعلمون بحاجته للتدخل الطبي، لكن وضعهم المادي لم يسمح بالسفر إلى المدن الكبيرة للحصول على العلاج، ففضلوا إبقاءه في المنزل“.
اليوم، أصبح هذا الشاب “طليق الشوارع، يبيت خارج المنزل أحيانًا، مخيفًا للأطفال والنساء، لا يعرف أحدًا من أقاربه، ولا يحلم بمستقبل“.
يؤكد قريبه أن حياته ضاعت بسبب غياب الرعاية النفسية المبكرة، ويختتم: “لو كان هناك مركز متكامل للعلاج النفسي في الجنوب، ولو تلقى العلاج في الوقت المناسب، ربما لم نكن لنراه اليوم مجرد ظل يمشي في الشوارع، محطم النفس والجسد، بلا هدف، بلا علاج، وبلا أمل.”
اكتئاب ما بعد الولادة: صمت الأهل والوصمة الاجتماعية.

تروي “ليلى” (اسم مستعار) تجربتها مع اكتئاب ما بعد الولادة: “بعد ولادة طفلي، شعرت أنني لا أستطيع تقبّله، لم أستطع حتى إرضاعه طبيعيًا. كنت أعيش في عزلة دائمة، وأشعر بالخوف والغضب أحيانًا بلا سبب“.
تضيف أن أهلها “لم يفهموا ما أمرّ به، لم يدركوا أن هذه مرحلة طبيعية… وأنني بحاجة للدعم والمساعدة النفسية“.
وتؤكد أن “المجتمع أيضًا لم يكن متفهّمًا، كل النظرات والهمسات تجعلني أشعر بالذنب وكأنني أم فاشلة“.
وتشير إلى أنها بدأت العلاج تدريجيًا، وتحسنت حالتها، مؤكدة على أن “المشكلة ليست في المرض النفسي نفسه، بل في نقص الوعي ورفض المجتمع الاعتراف به“.
وهذا ما تؤكده سيدة فضّلت عدم ذكر اسمها، قائلة إن المجتمع “لا يعترف بالأمراض النفسية بالجدية الكافية”، وتتذكر شابًا انتحر بسبب “اكتئاب حاد” لم يلتفت إليه أحد، “فكانت النتيجة أن خسر حياته“.
وتذكر أيضًا السيدة المصابة بالفصام التي “كانت تقضي يومها كله في الطريق وتهاجم المارة”، ويصفها الناس بـ”المجنونة”، في حين أن عائلتها “لم يسعوا لعلاجها وتركوا ابنتهم في الشارع خوفًا من كلام الناس، رغم أن حالتها يمكن علاجها بسهولة“.

تحديات الصحة النفسية: غياب المراكز ووصمة المجتمع.
تؤكد الأخصائية النفسية سليمة زيدان، مديرة مكتب الشؤون الاجتماعية والنفسية في إدارة الخدمات الصحية سبها ، أن من أبرز المراكز النفسية في المنطقة “مركز واحد فقط، وهو مستوصف نفسي يضم حجرة واحدة“.
وتشير إلى أنها ما زالت مستمرة في المطالبة بإنشاء مركز علاج نفسي متكامل، خاصة مع تزايد الحالات النفسية بشكل مستمر.
وتوضح أن أسباب الاضطرابات النفسية متعددة ومعقدة، وتشمل العوامل الشخصية والوراثية والبيئية والمادية والمشكلات الأسرية، مؤكدة أن الكبت النفسي يعد أحد أبرز مسببات الاضطرابات.
وتضيف أن أكثر الاضطرابات شيوعًا في المنطقة هي الفصام، واضطرابات الشخصية، والاكتئاب، والقلق، ونوبات الهلع، والوسواس القهري، واضطرابات الأطفال.
وتلفت إلى أن غياب الوعي المجتمعي والوصمة الاجتماعية تجعل الكثير من الحالات تتأخر في تلقي العلاج، ما يزيد من تفاقم المشكلات، خاصة مع لجوء البعض إلى المشعوذين بدلًا من العلاج النفسي المختص، كما نبهت إلى مشكلات الإدمان بين الشباب، وخصوصًا تعاطي الترامادول.
وتؤكد أن وجود مركز واحد فقط يزيد من شعور المرضى بالعزلة والخوف من المجتمع، بينما وجود مركز متكامل يقلل من هذه الوصمة.
وتوضح أن النساء أكثر قدرة على التعبير عن مشاعرهن، بينما يعاني الرجال من صعوبة أكبر، ما يجعلهم أكثر عرضة للمضاعفات.

وتشدد على أهمية البرامج الترفيهية للأطفال والشباب، وتختتم تصريحها بالتأكيد على أن المطالبة بإنشاء مركز علاج نفسي متكامل في المنطقة هو مطلب رئيسي، داعية المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني إلى المشاركة في التوعية.
أولياء الأمور يصرخون: ارتفاع التكاليف وغياب الخصوصية يعيقان علاج أبنائنا.
خلال جولتنا الميدانية، التقينا بعدد من المواطنين من مختلف مناطق الجنوب، ممن لديهم أبناء يعانون من اضطرابات نفسية، وأكدوا أنهم يواجهون تحديات كبيرة في الوصول إلى العلاج المناسب.
أوضحوا أن العيادات الخاصة مكلفة جدًا، ولا يستطيع معظم الأهالي تحمل مصاريفها، مما يضطر بعض الأسر إلى تأجيل العلاج أو التوقف عنه، وهو ما يزيد من حدة معاناة المرضى وأعباء الأسرة.
وأشاروا إلى أن العيادة العامة الموجودة بمستوصف الثانوية ليست مكانًا مناسبًا للعلاج النفسي، فهي جزء من مستوصف عام، حيث يتواجد المرضى أمام المنتظرين الآخرين الذين يدخلون عيادات مختلفة، ما يجعلهم يشعرون بعدم الراحة والحرج، ويزيد من شعورهم بالوصمة والخوف من الحكم الاجتماعي.
وأكدوا أن الحاجة إلى مركز مختص بالصحة النفسية في الجنوب أصبحت ملحة، مركز مجهز بأطباء نفسيين وأخصائيين اجتماعيين، يوفر الخصوصية الكاملة للمرضى ويتيح لهم العلاج في بيئة محترمة وآمنة، بعيدًا عن التهميش والإهمال. كما طالبوا بتوفير الأدوية الأساسية مجانًا أو بأسعار رمزية، لضمان استمرارية العلاج ومتابعة الحالات دون معيقات مالية أو اجتماعية.

وأوضحوا أن إنشاء مركز كهذا سيكون خطوة حقيقية نحو حماية صحة أبناء الجنوب النفسية، ويخفف الضغوط النفسية على الأهالي، ويمنح المرضى فرصة لتلقي الدعم اللازم دون خوف أو إحراج، مؤكدين أن غياب مثل هذه المراكز يفاقم من الأزمات النفسية ويترك آثارًا طويلة الأمد على الأسرة والمجتمع بأسره.
المرأة: أعباء أكبر تحتاج إلى تقدير.
تُشير المعالجة النفسية سالمة ياقة، مديرة مكتب الشؤون الاجتماعية والنفسية في دار الخدمات الصحية، إلى أن المرأة تتحمل مسؤوليات أكبر بكثير من الرجل، ما ينعكس بشكل مباشر على صحتها النفسية والجسدية.
وتضيف أن المرأة اليوم تقود السيارة، وتشارك في العمل، وتتحمل مسؤوليات المنزل، وهو ما خلق لديها أحيانًا ضغوطات أسرية.
وتؤكد أن تأثير هذه المسؤوليات يظهر بشكل أكبر خلال الحمل، حيث تعاني المرأة من أعراض الوحم والتوتر والقلق، وقد يصل الأمر إلى اكتئاب ما بعد الولادة.
وتشير إلى أن بعض النساء يبقين في هذه الحالة دون علاج “بسبب عدم تقدير الأسرة لدور المرأة أو الاعتراف بتعبها الجسدي والنفسي“.
وتشدد على أن تقدير الدور النفسي للمرأة وفهم تحدياتها هو “واجب أسري ومجتمعي”. وتختتم حديثها بالقول إن هذه الضغوطات اليومية قد تؤدي إلى مشكلات نفسية خطيرة إذا لم يتم التعامل معها بشكل مناسب، مؤكدة على أهمية الدعم الأسري والمجتمعي للمرأة.
مفاهيم خاطئة ودور نقابة الأخصائيين
. تؤكد عائشة بن يحمد، نقيب الاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين فرع سبها، أن النظرة المجتمعية تجاه من يزورون عيادات الصحة النفسية ما تزال دونية، وتحمل الكثير من المفاهيم الخاطئة.
وتوضح أن وصف هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكون بـ”مختل” أو “مجنون”، ما يجعل كثيرين يلجؤون إلى تفسير معاناتهم النفسية بأعراف ثقافية خاطئة مثل “العين أو الشعودة أو السحر“.
وتضيف أن هذه النظرة السلبية تجعل العديد من الحالات التي يمكن علاجها بجلسة واحدة أو ببعض الأدوية تُضيع بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعية، مما يؤدي إلى الانعزال وفقدان الثقة بالنفس، وقد يصل الأمر إلى الاكتئاب والتفكير في الانتحار
. وتشير بن يحمد إلى أن النقابة تسعى إلى إنشاء مراكز متخصصة بالصحة النفسية في سبها، وتنظيم حلقات نقاش مع المسؤولين لضمان توفير مراكز حكومية تهتم بالمرضى النفسيين، بدلًا من ترك الحالات بلا رعاية
. كما تؤكد على أهمية دور المرشد النفسي في المدارس، الذي “لا يقتصر على الطالب الذي يعاني من ضغوط مدرسية فقط، بل يشمل متابعة التأثيرات الأسرية، والتفكك الأسري، أو مشاكل الشارع والمحيط“.
وفي رسالة مباشرة إلى الأسر التي لديها أفراد يعانون من حالات نفسية، تقول بن يحمد: “من غير المعقول أن يُحبس الابن داخل البيت خوفًا من وصمة المجتمع، هذه الأرواح ستسأل عليها يوم القيامة“
. وتشير إلى أن “غياب المراكز النفسية المتخصصة في سبها وما حولها لا يفاقم حالة المرض فقط، بل يؤدي إلى تجاهل المجتمع للحالة النفسية للمرضى“. الأمراض النفسية: الواقع والجهود المبذولة.
يشير الدكتور محمد البوسيفي، أخصائي الأمراض النفسية بعيادة مستوصف الثانوية، إلى أن “الأمراض النفسية أصبحت بارزة وواضحة بشكل أكبر في مجتمعاتنا”، وأبرزها القلق والخوف والاكتئاب، إضافة إلى حالات الانفصام.
ويضيف أن أغلب من يترددون على العيادات هم من فئة الشباب، والنساء أكثر حضورًا من الرجال، ويعود ذلك لطبيعة المرأة الحساسة وضغوط المجتمع عليها.
ويوضح أن الوصمة لا تزال موجودة، حيث يُنظر للمرض النفسي غالبًا على أنه “ضعف في الشخصية أو نقص في الإيمان”، لكنه لاحظ تحسنًا ملموسًا في الوعي العام على مدار عمله الذي يمتد لـ25 سنة
ويؤكد على الترابط بين الصحة النفسية والعضوية، وأن الضغط النفسي يمكن أن يؤدي إلى مشاكل عضوية مثل ارتفاع السكر أو ضغط الدم، والعكس صحيح.
مبادرات مدنية في مواجهة التحديات. في ظل غياب الدعم المؤسسي، برزت جهود مجتمعية لسد الفراغ، مثل فريق الدعم النفسي بسبها، الذي يصف مديره التنفيذي، أحمد قليوان، عمله التطوعي بأنه “كان أحد أكبر التحديات في بدايته“
. يشير قليوان إلى أن كثيرًا من الناس كانوا يخشون المشاركة في الأنشطة خوفًا من أن يُنظر إليهم على أنهم “ضعفاء”. لكن مع الوقت، وبفضل الأنشطة التوعوية والإعلامية، “بدأ هذا الحاجز يتلاشى تدريجيًا“. ويوضح أنهم اعتمدوا على استراتيجية “الدعم في السياق”، أي تقديم الخدمة في الأماكن التي يتواجد فيها الناس مثل الحدائق والمدارس والمراكز الصحية. ويشير إلى أنهم قاموا بتدريب الأخصائيين والمتطوعين، واستخدموا أدوات بسيطة مثل جلسات الاستماع، والأنشطة الترفيهية، لتقريب المفهوم للناس. ويؤكد قليوان أن أهم الدروس المستفادة من العمل الميداني تكمن في أن التغيير يبدأ من المجتمع نفسه، وأن “الوصم لا يُهزم بالقوة، بل بالوعي والاحترام والاستمرارية“.
نحو استراتيجية وطنية شاملة.
ومع استمرار التحديات النفسية والاجتماعية التي تُلقي بظلالها على المجتمع الليبي، أطلقت وزارة الصحة الليبية في يونيو 2025، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية (WHO, 2025)، الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية.
تهدف هذه الاستراتيجية إلى بناء منظومة متكاملة للرعاية النفسية، تشمل وضع معايير وطنية للمراكز والمصحات، وإعداد مسودة قانون شامل ينظم القطاع ويضمن حماية حقوق المرضى، إضافة إلى إدماج مفاهيم الصحة النفسية في التعليم والمجتمع لتعزيز الوقاية والتوعية.
ويصف مختصون هذه الخطوة بأنها بداية فعلية نحو معالجة الآثار النفسية المتراكمة على المجتمع الليبي، وتوسيع نطاق الخدمات لتشمل مختلف المناطق التي طالما عانت من الإهمال، مثل الجنوب، لتكون بذلك نقطة انطلاق لرحلة طويلة من الدعم والتعافي.

كما تشير تقارير منظمات المجتمع المدني إلى أن الاستراتيجية تسعى لمواجهة التحديات المزمنة، مثل نقص الأخصائيين النفسيين، غياب المراكز المتخصصة، وصعوبة الوصول إلى الخدمات في المناطق النائية، إضافة إلى كسر الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي، وهو ما يعكس إدراكًا متزايدًا من السلطات الصحية بأهمية الصحة النفسية كجزء لا يتجزأ من الصحة العامة.
وفي ظل استمرار هذه التحديات، يرى ناشطون في فرق الدعم النفسي أن مبادرات المجتمع المدني ما تزال تمثل خط الدفاع الأول، إذ تقدم الدعم المباشر، وتعمل على التوعية المجتمعية، بما يساهم في تكوين شبكة أمان أولية للمرضى النفسيين، خاصة في المناطق التي لا تصلها الخدمات الحكومية.
وتوضح شهادات المرضى وعائلاتهم، كما في قصص الجنوب الليبي من الشاب الذي حُرم من العلاج بعد صدمة الناتو، إلى آمنة وليلى، حجم المعاناة التي تعيشها الأسر، وكيف تتحول الوصمة الاجتماعية والجهل النفسي إلى مأساة، رغم أن العلاج متاح وقادر على إنقاذ الحياة في حال توفرت الموارد والمراكز المختصة والدعم المبكر.
ويؤكد معالجون نفسيون ومنظمات حقوقية أن التحدي الأكبر يظل في تمكين المرضى النفسيين من الحصول على حقوقهم الإنسانية في العلاج والعيش بكرامة، وتحويل الوعي الاجتماعي من الخوف والعار إلى التعاطف والفهم، بما يجعل من الصحة النفسية مسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع المدني والأسرة نفسها، لضمان أن لا يتحول المرض النفسي إلى حكم بالإقصاء الاجتماعي، وأن يبقى لكل فرد الحق في العلاج والكرامة والدعم، بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه أو الظروف التي نشأ فيها














