- د . سلمى مسعود
خمسة عشر عامًا مرت على انطلاقة فسانيا، خمسة عشر عامًا من الحكايات، والتحديات، والصوت الجنوبي الذي لم يخفت يومًا رغم كل ما مرّ به. وفي هذه المناسبة العزيزة، أجد نفسي أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظات الأولى التي جمعتني بهذه الصحيفة، وإلى الطريق الذي مشيناه معًا بكل ما حمله من نور وظلال.
أنا سلمى مسعود، واحدة من الذين كان لفسانيا نصيب في تشكيل رحلتهم الإعلامية، وواحدة ممن تعلموا بين صفحاتها معنى الكتابة الصادقة ومعنى أن تكون للكلمة رسالة. أشارككم اليوم تجربتي معها، ليس مجرد سرد، بل امتنانًا لكل ما منحته لي هذه المؤسسة من ثقة ومساحة وصوت.
ففسانيا لم تكن يومًا مجرد صحيفة … كانت بيتًا، مدرسة، وذاكرة كاملة من الشغف والإيمان بالجنوب.
جذور الحكاية وبداية الطريق
منذ طفولتي كان يسكنني شغف فطري بالإعلام، شغفٌ يجعلني أصغي لكل حكاية تمر أمامي، وكأن الكلمات تُناديني لأمنحها صوتًا وحضورًا. كنت أتمنى لو أمتلك الجرأة لكتابة ما أشعر به… حتى جاءت أولى خطواتي الحقيقية بدعمٍ لا يُنسى من والدتي رحمها الله.
كانت أول من رأى شرارة السرد في داخلي، تؤمن بقدرتي على التعبير، وتشجعني كلما أمسكت قلمًا أو تحدّثت عن فكرة. كانت تُخبرني دائمًا أن للكلمة احترامًا، وللصدق مكانة، وأن على صوت الحق ألا يصمت. كلماتها بقيت في قلبي كوصية حياة.
كبرت في بيئة مزدحمة بالقصص التي لا تُروى، وفي مجتمع يحمل الكثير من التفاصيل المغلقة داخل الصمت. ومع كل عام يمضي، كان ينمو داخلي شعور قوي بضرورة الكتابة، بالكشف، وبأن أكون شاهدة على ما يُخفى. آمنت بأن الحقيقة تستحق أن تُقال، وأن الكتابة أول طريقٍ للتغيير.
وفي عام 2015، بدأت حكايتي الحقيقية. كانت فسانيا بوابة دخولي إلى عالم الصحافة؛ اللحظة التي حملت فيها القلم ووقفت أمام مسؤولية كبيرة، ربما أكبر من عمري آنذاك. كانت البدايات مرهقة ومليئة بالرهبة، ولكنها كانت أيضًا بداية شغف لا يخبو. ومنذ تلك اللحظة أدركت أن هذا الطريق هو طريقي … طريق لا يخشى الأسئلة، ولا يهاب الاقتراب من القضايا المسكوت عنها.
فسانيا: بوابة العبور.
كانت فسانيا بالنسبة لي أكثر من مجرد صحيفة؛ كانت البيت الأول، المدرسة التي تعلمت فيها أبجديات المهنة، والمكان الذي اكتشفت فيه نفسي من جديد. في أحضانها وجدت مساحة أتنفس فيها الحقيقة، وأتعلم معنى أن تكون صحفيًا يحترم الكلمة ويبحث عن نورها مهما كان الثمن.
هاجر الطيار … حلقة الوصل وصانعة البدايات.
قبل أن أخطو أولى خطواتي في فسانيا، كانت هاجر الطيار هي اليد التي فتحت لي هذا الباب. كانت تؤمن بي قبل أن أؤمن بنفسي، وتشجعني على القراءة والكتابة، وتكرر لي دائمًا: “لديك مهارة السرد… السرد الإنساني للقصص.”
كانت كلماتها بذرة الثقة الأولى في داخلي، والدافع الذي جعلني أقترب من عالم الصحافة دون خوف. ومن خلال دعمها وتشجيعها، بدأ طريقي الحقيقي، وبدأت رحلتي التي ما زلت أسيرها حتى اليوم.
سليمة بن نزهه… القائدة التي صنعت فينا الكثير
ثم جاءت سليمة بن نزهه، رمز القوة والإلهام، والقائدة التي لم تكن مجرد مديرة لصحيفة فسانيا. كانت الأم المهنية، والصديقة، والأخت التي احتضنت الفريق كله. وقفت معنا في أحلك الظروف، تدعمنا وتشجعنا وتحمي خطواتنا الأولى.
ورغم كل الانتهاكات والمضايقات التي واجهتها الصحيفة، كانت سليمة تقف في وجه العواصف وقفة رجل واحد، حاملة فسانيا على كتفيها بإيمان لا يتزعزع.
لقد أعطت صوت الجنوب كل وقتها وكل عمرها، وما زالت حتى اليوم تزرع الأمل في كل من يمر عبر هذه الصحيفة العريقة. وإذا كان بعد الله سبحانه وتعالى فضل لاستمرار فسانيا، فهو يعود لها، لأنها كانت القلب الذي حافظ على نبضها والروح التي منحتها الاستمرار.
التحديات والصعوبات.
لم تكن تجربة العمل الصحفي في فسانيا مجرد ممارسة مهنية؛ كانت رحلة تعيش على حدود الخطر. تلك السنوات كانت مدينة سبها فيها مدينة متوترة حتى النخاع، مدينة تختلط فيها الحياة بالخوف، والنهار بالترقب، والليل بصوت الرصاص.
كانت الشوارع في تلك الفترة أشبه بفضاءٍ معلّق، لا يستقر على حال.
الطرق التي كنا نمر بها للوصول إلى مقر الصحيفة كانت تحمل في كل زاوية منها قصة خوف، وحكاية اغتيال، وإشاعة عن استهداف صحفي جديد.
كان دخان الأحداث لا ينقطع، والأخبار التي تصلنا عن استهداف الإعلاميين تتصدر أحاديث الناس، وكأن الصحفي بات يمشي وهو يحمل اسمه في قائمةٍ ما، ينتظر دوره.
عملنا في بيئة تهتزّ كل يوم، في مدينةٍ كان صوت الرصاص فيها أعلى من صوت أي شيء آخر.
لم تكن سبها تبحث عن الاستقرار … كانت تناضل من أجله.
وكانت فسانيا جزءًا من تلك المعركة.
تعرضتُ أنا وزميلاتي وزملائي لتهديدات مباشرة وغير مباشرة، فقط لأننا فتحنا ملفات لا يريد البعض لها أن تُفتح، ونشرنا حقائق لا يرغب البعض أن يرى الناس نورها. كنا ندرك جيدًا أن كل كلمة نكتبها قد ندفع ثمنها، وأن كل تحقيق ننشره قد يفتح بابًا من المضايقات والترهيب.
ومع ذلك … لم نتراجع.
كتبنا رغم الخوف.
تحركنا رغم التهديدات.
واعتمدنا على شجاعتنا وعلى إيماننا بأن الحقيقة تستحق أن تُروى مهما كان الثمن.
كان هدفنا أن ننقل صوت المجتمع الذي اختنق بين الحرب والفوضى، وأن نروي المآسي التي كان الناس يعيشونها في صمت، وأن نمنح القصص المدفونة مساحة للظهور.
وفي النهاية… نجحنا.
نجحنا لأننا لم نكتب خوفًا، بل كتبنا واجبًا ورسالة.
ولأن فسانيا لم تكن مجرد صحيفة… بل كانت صوت جنوب كامل يبحث عن الحياة وسط الركام.
محطات التوقف واستعادة الطريق.
لم تكن رحلتي مع الكتابة طريقًا مستقيمًا أو مستقرًا… بل كانت تشبه مدينة تتقاطع فيها الطرق، تضيء أحيانًا وتخفت أخرى، لكنها لا تنطفئ أبدًا.
في عام 2016 وجدت نفسي أمام محطة توقف لم أخطط لها. كانت الظروف الأمنية تضيق من حولي، وكان الخوف يمر في الشوارع قبل الناس، حتى صرت أخشى على نفسي وعلى من حولي. لم يكن التوقف قرارًا سهلاً، بل كان ضرورة فرضها الواقع.
شعرت يومها بأن شيئًا مني انطفأ… لكن الشعلة لم تمت.
ومثل كل الأشياء الجميلة التي تعود حين نحتاجها، عادت الكتابة إليّ في عام 2020. عدت بخطوات بطيئة، أكتب بعض التحقيقات كمن يتلمس طريقه من جديد. كانت عودة قصيرة لكنها تركت في قلبي أثرًا كبيرًا، أعادت إليّ شيئًا من الشغف الذي خفت صوته ولم يختفِ.
ثم جاءت مرحلة أخرى أثقلتني بظروف جديدة، دفعتني للابتعاد مرة أخرى. وكأن القدر كان يختبر مدى ارتباطي بهذه المهنة، كلما ابتعدتُ عنها قليلًا… ازداد اشتياقي لها كثيرًا.
وفي 2025، حدث ما يشبه اليقظة. عاد الحنين بقوة، عاد الصوت الذي يخبرني أن الكتابة ليست هواية، بل جزء من روحي لا يكتمل بدونه شيء.
عادت فسانيا… وفتحت لي بابها كما تفعل دائمًا، كأنها تقول: “عودي، فهنا مكانك.”
عدت أقوى، أكثر نضجًا، وأكثر وعيًا بقيمة الكلمة التي أكتبها.
وعاد اسمي ليُسطّر من جديد في صفحاتها… تمامًا كما لو أنني لم أغب يومًا.
كانت تلك التوقفات محطات ضرورية، صنعتني من جديد. لم تكسرني… بل أعادت تشكيل صوتي، ورسّخت بداخلي أن العودة دائمًا ممكنة، وأن الشغف لا يموت… بل ينتظر لحظته ليولد من جديد.
وفي ختام هذه الرحلة التي امتلأت بالتجارب والذكريات والمواقف التي شكّلتني، لا بدّ أن أرفع شكري العميق لصحيفة فسانيا، هذا البيت الذي جمعنا تحت سقف الحقيقة، ووقف ثابتًا عندما تهاوت من حوله الكثير من الأصوات.
فسانيا التي لم تُغلق بابها يومًا، والتي احتضنت خطواتنا الأولى، وظلّت تؤمن برسالتها ورسالتنا حتى في أحلك الظروف.
كما أتقدّم بامتناني الكبير لأصدقائي وزملائي الذين كانوا معي في كل مرحلة. أولئك الذين واصلوا الكتابة رغم الخوف، واستمروا في العمل رغم التهديدات، وواجهوا الصعوبات بقلوبٍ لا تعرف الانكسار. لقد كنّا كتفًا بكتف، نكتب، ونوثّق، ونحمل صوت الجنوب بكل صدق وإصرار.
ورغم كل ما مررنا به… ما زلنا نكتب. وسنظل نكتب.
سنكتب لأن الكلمة مسؤولية، ولأن الحقيقة تستحق أن تُقال، ولأن فسانيا كانت وما زالت المكان الذي يُعيدنا كل مرة إلى الطريق الذي اخترناه.
شكرًا لكل من كان جزءًا من هذه المسيرة… وشكرًا لأننا ما زلنا نمضي، وما زالت الكلمة تنبض في قلوبنا.














