بقلم :: محمد السنوسي الغزالي
من يكتب للناس؟ من يكتب لهم بحق عن هذه المدينة؟ من يمكنه الكتابة ولايدعي فيها من يمكنه حفظ ذكرياتها وقيمها المعيارية. قال في نفسه : هم قلة من يفعلون ذلك، لكن الكثرة يتصدون لهذه المهمة الصعبة، مهمة الذاكرة والصدق كان الحاج صالح يقول لنفسه : متى يأتى الخجل؟ فكلما قرأ أو سمع من بعض الذين يتحدثون عن ذكرياتهم فى مدينة بنغازى تذكر بائعة الفحم فى البركة الحاجة مسعودة التى كانت تردد ( ما تكذبي نين ايموتوا اكبار الحارة) وكان والده يضحك كثيرا عندما يسمعها كان يقول : الحاجة مسعودة أحكم الحكماء فى هذا الزمن المجنون !
فى إحدى السنوات وفى شهر رمضان المبارك يتذكر الحاج صالح أيام لن تعود وفي إحد الأيام يوم ربيعي يلوذ به الصمت المتحفز! الحاج صالح كان صائما بكل معنى الكلمة فى ذلك اليوم..صائم جدي ومهتم !عيناه غائرتان لاتكاد تراهما من فرط شبه الإغماضة الرمضانية التى تلوذ بهما وهو يشق طريقه من زقاق البوري فى البركة عابرا واثقا من شارع بن شتوان متجها صوب الفندق فذلك اليوم كان يوم راحة عمل ، فهو يعمل يوم كامل ويرتاح ليومين تاليين يقضيهما فى فراغ يقوده أحيانا إلى زوايا( السيزة) قرب الملجأ القديم أو كما فعل فى ذلك اليوم التوجه بقفته إلى الفندق مسرعاً تارة.. يمشى الهوينا تارات أخر يرد تحيات صباحية أحيانا وأحايين أخرى يرمق من يحييه بنظرة لامعنى لها ..يعرفه الناس ويعرفون مزاجه..لذلك يقابلون سلبيته احيانا بابتسامات ساخرة..والتحية بالنسبة لصالح ليست أمرا ذي بال..فالناس تعرف مشاكله المفتعلة..ولذلك هو يعتبر التحية الصباحية احيانا نوع من الاستفزاز الرمضانى ليس إلا..فيغمز عينه لأحدهم ويقول له ( عارف..عارف)..بمعنى أنه يعرف خبثهم المهم أن صالح يسير راجلا هذه المسافة الطويلة..تقف عليه حافلات الركوبة..وأحيانا الكارو بالحصان..يشير إليهم بكلتا يداه( لاأ ريد الركوب)!! فأولى له أن يهين رجلاه من أن يهين قرشه…ذات مرة سمع هذه الحكمة من أحد المصريين الوافدين( هين نفسك ولاتهين قرشك)..يا له من مثل..يقول الحاج صالح..فجأة عندما قادته رجلاه إلى سيدى حسين أمام محل جزارة أوقفه لسان البقرة متحديا من وراء الشاش الذى يغطيه..معلق على نحو عمودى يغري الناظرين ( خاصة إذا كانوا صياما)..تسمر فى مكانه..وحرن كما يحرن الحصان..تعلم كلمة حرن الحصان من جارهم الحاج عمران صاحب الكارو بالحصان قال له ذات مرة( احيانا يزعجنى هذا الحصان فيحرن..يتوقف عن السير ولايعبأ بلسعات السوط التى تحرقه..أحس بالإحراج أمام الركاب الذين يهبطون واحدا تلو الآخر بحثا عن كارو آخر وحصان لايحرن..وعندما يذهب الركاب يحلو للحصان أن يستمر!) هو أيضا حرن أمام دكان الجزار..وتغيرت وجهته من الفندق إلى العودة إلى البركة!!..تلصص القصاب من وراء الباب يرقب هذا الحائر..ثم بخبث واضح مسد بيده على اللسان وقال له من الداخل( طاجين سمح يا حاج صالح)ثم خرج عليه فعاجله الحاج صالح ( لف لى هذا اللسان اللعين!!)..فجأة يدخل رجل آخر طالبا جميع الألسنة لدى الجزار..ولمعت عينا الجزار..ولاحظ الحاج صالح الشروع فى مؤامرة حرمانه من اللسان…فبدأ يوم طويل له ما بعده أصر صالح على شراء لسانه وأصر الزبون الوافد على ألا يشترى الألسنة كلها إلا إذا كان لسان الحاج صالح من بينها!!تجمع الناس ..توقف المارة لمشاهدة هذا الحدث ..لكن الزبون اكتشف أنه كان أحمقا فتنازل لصالح عن لسانه أخيرا!
عند الإفطار كانت الحاجة سليمة قد وضعت اللسان فى قلب المائدة وتحيط به عشرات الأصناف!! لكن صالح أرغى وأزبد لحظة ذروة الإفطار..أرغم زوجته على إخلاء المائدة إلا من اللسان ، لأنه اعتبر كل الإضافات الأخرى عبارة عن تمويه لحرمانه من أكلة لذيذة مع ذلك لم يقوى صالح إلا على تناول قطعة واحدة من لسان البقرة..ثم أبعد السفرة وأزاحها بيده واتكأ فى انتظار كوب الشاى..سليمة لم تجرؤ على الاحتجاج ولم تنطق بكلمة واحدة بينما اللسان يخرج نفسه للحاج صالح متحديا شهواته المضحكة.