قصة قصيرة :: جود الفويرس
عماد بخطواتٍ سريعة ومتلاحقة كقطيع برّي فارٍّ من صيدٍ جارف، دلف عماد مقهى “ستار بكس” كالسّهم؛ هربًا من شآبيب المطر، الجوُّ عند الحافرة لم يشِ بهذا الهطول المفاجئ؛ ولكن ها قد حلّ المساء باسطًا يديه على عتمة مباغثة، قابضًا بشحٍّ على الضوء، وجالبًا في سمائه القامتة من الأنوارِ المتلألئة القليل. ترك عماد مظلّته المبللة قرب الباب آملًا أن تجفّ سريعًا، ثمّ أخذ ينفخ بالدّفء في يديه الرّماديتين، صاح في صخب: “اللعنة”، حين لمست يده المتجمّدة صدفةً جزءًا ضئيلًا من رقبته المغلّفة بشال الصّوف. أخذَ روّاد المقهى يحدّقون في وجهه وهو يتقاطر ماءً وخجلًا؛ لكنّهم ما لبثوا قليلًا حتّى صرفوا عنه أنظارهم وعادوا يلوكون طعامهم ويرتشفون شرابهم السّاخن. قال مُحدّثًا نفسه: “وماذا في قول اللعنة من عيب يا تُرى؟أكلُّ هذا الاستهجان أمريكيّ الملامح لأنّني تحدّثتُ بالعربية؟ ألا يقولون “shit” بلغتهم أيضًا؟” اختارَ عماد مكانًا قصيّا يبعد عنه العين والتّطفل، ثمّ أخذ يعبُّ الهواء كالماء دون أن ترتوي حاجته، أقصد أيُّ هواءٍ يكفي جسدًا شاهقًا بهكذا طول؟ وكم ساعة نوم تكفيه يا تُرى لإزالة إرهاقٍ تنضح به ملامحُ المسافر على وجهه؟ لم يحظَ بوقتٍ كافٍ مع حبيبته سلمى والتي قام بخطبتها حديثًا، وها هو الآن يُجرُّ إلى بُروكلين لحضور مؤتمرٍ عالميّ بعيدًا عنها جرّاء العلم والعمل. لا يذكر عماد متى لحظ سلمى في منتصف طلّابه فعليًا، ذات يومٍ دقّت بابَ مكتبه ومالت برأسها وهي تبتسم وتستأذن الدّخول، كانت المرّة الأولى التي يراها فيها بشكلٍ مختلف، سمع صوتها وانتبه لتلك الرّغبة الدّفينة، رغبة لزهور أدونجيّة أن تتفسّخ في الخصب من جوفه تفسّخًا لا يرافقه ألم، بل يصمت المرء بخشوعٍ شاهدًا عليه وكفى، لم ينعم عماد برقاده تلك الليلة، بل راح يتقلّب على فراشٍ من سفود، لم يحترق شيئًا، بل أينعت أشياءٌ كثيرة طازجة، أشياءٌ أُخذ بها وسحر برائحتها، شاعرًا في داخله برخاء الجنّة ونعيمها. انتظر عماد برهةً من الوقت حتّى يتوقّف المطر، دعا الله أثناء ذلك بدوامِ ما يشعر به، تمنّى ألاّ يكون ملصقُ تاريخ الانتهاء ينتظره في إحدى ملتويات القدر، وكان لحوحًا في شكر الله على كلّ ما يملكه حقًّا، طامعًا من سُبحانه في المزيد. غاص بوجهه العريض في قطعةِ المافين المنتفخةِ أمامه، وأكل حتّى تضرّجت وجنتاه، وحين توقّف المطر كان مفعولُ الكفايين المنشّط حارًّا في جسده بما يكفي حتّى يركض، هبّ واقفًا لإغلاق معطفه جيّدًا بناءً على توجيهات سلمى، ثمّ أخذ مظلّته النصف جافة وخرج من الباب بخطواتٍ هادِئة تُلائم بطنًا متخمة. كانت الشّوارع المبللة بالمطر تبدو له كالمرايا تمامًا؛ لكنّها ليست شوارع بلده، إذًا لماذا تُحدّثه نفسه ليتوقّف وينظر إلى انعكاسه فيها؟ سار عماد وظله المديد على الأرض يلحقه؛ ولكنّ سرعان ما اختفى وهو يلبس جسده فجأةً حين تعامدت شمسُ القلقِ عليه، أخذ يفكّر في العرض الذي قدّمه إليه بروفسور دانييل، شقة مناسبة ووظيفة تليق بمهندسٍ في مستواه، كما أنّ سلمى ينتظرها مستقبلٌ باهر أكثر هُنا، أيبقى في بلاده فقيرة الفرص قريبًا من الشمس إلى ذاك الحد كعطارد، ليله سرمديّ ونهاره سرمدِيّ، يروح إلى الجامعة ويجيئ منها وحسب؟، أم أنّه يأتِي إلى هُنا -بروكلين- ويطلق العنان لقدراته، أينتهز الفرصةَ التي ستكلّفه رخاءَ كلمةِ مواطن؛ ليكون ظلُّ المستقبل وهو مغترب عليه ظليلًا؟ حين كان عماد يتعارك مع أفكاره؛ سمعِ أصواتَ ضجيجٍ ليس ببعيد، ترامت على مسامعه كلماتُ تهديد، ثمّ أغنية، ثمّ احتدّ الصراخ وعلت أصوات مُوسيقا صاخبة تقتلع القلب. تحت عارضة كُتب عليها حانة “Get drunk” رأى عماد رجلًا أمريكيًّا بدينًا يضرب بقدمه شابًّا نحيلًا على الأرض، يحادثه مستحقرًا بلهجة غليظة ويبصق على وجهه كيفما اتّفق، شعر عماد بالأسى على ذاك الشاب، أسماله وهيئته وكلّ ما فيه يصرخ بفقر روحيّ، ضائعًا، وكانت نظرةٌ واحدة إليه تكفي حتّى يُعلم عنه ذلك، حين سمع عماد الأمريكي يتهكّم على الشاب قائلًا: “اللعنة على المُسلمين “، ارتعشت فرائصه واشتعل حنقًا ثمّ اندفع نحوهم كالنّار يتقّد.