- د : مصطفى الفيتوري
منذ نكبتها التي سببها التأمر الخارجي عام 2011 والمجتمع الدولي وأممه المتحدة، الي جانب الدول الأقليمية، متفقون على قول واحد: لا حل عسكري في ليبيا انما الحل سياسي عبر مفاوضات شاملة. كلهم مخطئون!
أنصار هذا الموقف المعلن (دون الدفاع عنه) يجادلون بالقول: أن طبيعة الصراع وجذوره وبٌعده القبلي وفوق كل هذا أسبابه تجعل من المستحيل لطرف أن يهيمن على بقية الأطراف عسكريا و يعتقدون أيضا أن عدم وجود قوة عسكرية كافية، من بين الأطراف المختلفة، يلغي أمكانية بروز طرفا واحدا كمنتصر في ميدان المعركة.فقوات الجيش الليبي التي يقودها المشير حفتر قد لا تكون قادرة على حسم المعركة ميدانيا ضدالمليشيات المختلفة التي تقاتل، أسميا، تحت لواء حكومة الوفاق في طرابلس.
وحتى اللحظة فشلت المجموعات المتحالفة مع الوفاق في أرغام القوات المسلحة على العودة الي مواقعها التي كانت فيها في 4 أبريل، عندما أنفجرت موجة القتال الحالية. وعلى نفس المنوال فقد فشل الجيش حتى الان في تحقيق اي أختراق تمكن من خلاله من الأستيلاء على مواقع جديدة والاحتفاظ بها عدى عما حققه في أندفاعته الأولى.ومعركة طرابلس تكاد تكون متوقفة ميدانيا وأن حمى وطيسها على الجبهة السياسية خاصة في تحشيّد الدعم الخارجي.
حروب ليبيا الصغيرة، منذ أسقط النيتو النظام عام 2011، كانت بسبب السلطة وتقاسم الثروات الطبيعية وخاصة النفط الدي يتوفر لليبيا منه ما يكفي الجميع فقط لو أنهم يتفقوا. وما يغذي الصراع الحالي يعود أيضا الي ما يسميه علماء الأجتماع بالشخصية الأساسية لليبيين أنفسهم فهم، أجمالا، أذكياء وعُنُدٌ(جمع عنيد) ومساومون صعاب المراس ويمقتون الخسارة ويميلون الي الأنتقام مهما تأخر أجله. كما ان الليبيين يقدّرون النصر ليس فقط لما يجلبه من منافع ولكن أيضا بسبب أثره السلبي على العدو وأغلبيتهم لايتقبلون الخسارة.وفي أغلبيتهم يرون هزيمة العدو، أيا كان العدو، تكمن في أهانته وحرمانه من اي منفعة أقتصادية وهذا أهم لديهم من تحقيق اي مكاسب من وراء النصر وهنا يعتبر القائد القوي حجر الزاوية في هذه الثقافة القبلية المتجدرة عبرالأجيال. فهم يقدسون هزيمة العدو وأخضاعه أكثر حتى من اي غنائم مرتبطة بالنصر والأكثر من هذا فأن الليبيين، وعلى مدى أجيال من الثقافة القبلية، يعتقدون أن هزيمة العدو تكمن في أخضاعه وهو ما لايمكن ان يتم الا عبر منعه من اي منفعة أقتصادية او عسكرية، أي أن المنتصر يستحوذ على كل شئ ليكتمل النصر! ولعلنا نتذكر أن ليبياَ أمريكيا (شمام) وفور “أنتصار فبراير” دعى علانية المدن المنتصرة الي كتابة الدستور الجديد وكأن عقود عمره التي عاشها في امريكا لم تؤثر قيد أنملة في ثقافته وتفكيره وهو مصنف كعضو في النخب الليبية التي سيأتي ذكرها.
وفي سياق القتال الحالي هذا يعني ان قوات الجيش، المتمتعة بدعم شعبي نسبي، سترفض امرين: الأنسحاب المشروط والهزيمة لأن أي من الخيارين (يعني الهزيمة ضمنيا) وسيعنيحرمانها، أو بالأحرى حرمان المشير حفترــ بأكثر دقةــ من المشاركة في اي تسوية سياسية اذا ما تمكن مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة من بعث الحياة في المسار السياسي المتشظي الان. وفي المقابل، وفي غياب اي تسوية سياسية، فأن الذين يقاتلون بأسم الوفاق سيمضون في المعركة حتى النهاية بغض النظر عن متى تحل تلك النهاية لأنهم لا خيار أخر لهم. وما يجمعهم هو كراهيتهم لحفتر ولكنهم يتخاصمون حول كل ما عداه بما في ذلك مناطق نفوذهم في العاصمة لدرجة أن مواقعهم في الجبهة منفصلة عن بعضها البعض تبعا لتبعية كل مجموعة مع وجود بعض التنسيق فيما بينهم بحكم الضرورة. ولعل نقطة ضعفهم تكمن في خلافاتهم وليس في نقص قوتهم العسكرية.
أن اغلبية الليبيين يتوقون الي نوع من القوات المسلحة شبه المحترفة المستقرة والخاضعة الي قيادة قوية، (القائد الحازم)، بدل أن يظلوا خاضعين الي عدد من المجاميع المسلحة متعددة القيادات وأساليب العمل والمتفقة سلفا على أزدراء القانون.
وهنا يقدم الجيش، بالرغم من كل عيوبه وفقدانه للمهنية الكاملة، امكانية أشباع ذلك التوق، وأن بشكل جزئي، لدي أغلبية الليبيين الذين يدفعون كلفة الحرب الحقيقية.
أن المناخ السياسي الذي ساد بعد تدمير النظام السابق أنتج نخبة سياسية أنانية وفاسدة ولديها كل مقومات الفشل في بناء ليبيا الديمقراطية والمستقرة ببساطة لن تلك النخبة ترى أن ليبيا المنشودة تهدد وجودها بأسره ولهذا فأن البرلمان في الشرق وكذلك الوفاق في طرابلس سيعملون كل ما في وسعهم لإستمرار الوضع الراهن اطول فترة ممكنة.
أغلب أعضا البرلمان، على سبيل المثال، يعرفون أنهم سيخسرون أول أنتحابات نزية وشفافة وكل يوم يمر على وجودهم في البرلمان هو مكسب لأنهم يتقاضون أجورا مجزية عالية ومزايا مالية عالية ويعيشون حياة مريحة مقارنة ببقية الليبيين وعلاوة على كل هذا فأنهم لايخضعون الي اي رقابة حقيقية في بلد يعتبر فيه الفساد بطولة وطنية يشارك فيها الجميع ضمن نظام يفتقد الي اي أدوات رقابية فعاّلة وذات الأمر ينطبق على نخبة الغرب الليبي بما فيها الوفاق الحالي.وعليه فان الجانبين يفتقدان لأي حافز لرؤية ليبيا الجديدة تخرج من الركام لتكون المحاسبة فيها والديمقراطية وحكم القانون وقوة المؤسسات جزء أساسي من وصفة الحكم الرشيد.
وعلى هذه الخلفية فأنه لا الأمم المتحدة ولا اي وسيط أقليمي محايد، على قلتهم، يمكن أن ينجح في الوصول الي التسوية السياسية التي أستعصت على الليبيين على مدى ثمان سنوات.ولهذا فأن الحروب الصغيرة المتقطعة، التي تقع في مختلف أنحاء البلاد، ستتواصل حتى تأتي اللحظة التي يبرز فيها من الركام طرف ــ وأن كان دو طبيعة قبلية ــ يتمكن من الوصول الي تسوية سلما أو حربا بمشاركة البقية او أجبارهم على قبولها.
أن الأحزاب السياسية الليبية وكذلك منظمات المجتمع المدني تفتقد للحوافز الكافية لتكون قوى وطنية تقدمية قبل أي ولاءات أخرى في حين لديها كل الحوافز الكافية لتصطف وراء هذا الطرف أو ذاك. وهي عموما اما مرتبطة أرتباطا وثيقا بداعميها القبليين او الأجانب وتركز كثيرا على مكاسبها الخاصة مهما قل شأنها وهي في هذا شأنها شان النخب على الجانبين. وحتى التنظيمات ذات الميول الأسلامية مثل الأخوان، المعروف عنها قوتها التنظيمية كقوة سياسية، تعاني من نقص في الوطنية ولها علاقات عميقة ومريبة بأطراف أجنبية يبغضها الليبيون.
هذا الوضع يزيد من تأجيجه، وحدة أستقطابه، التدخل الخارجي المستمر من قبل اللاعبين الدوليين والأقليميين عبر دعمهم للأطراف المختلفة في الصراع خاصة أثناء المعارك المسلحة.
وفق هذه الحقيقة يصبح الحل السياسي ليس أولوية ويتراجع أمام الحل العسكري مما يعني ان تتحشد الأغلبية حول نوع من الأجندة الوطنية وأن كانت ضعيفة وللأسف فأن هذا الحل باهض الثمن الا اذا تغيرت وبشكل جدري النخبة السياسية والمناخ الذي أنتجها والثقافة السياسية بأكملها وهذا طبعا يحتاج الي الكثير من الوقت. كما ان الحل العسكري قد لا تتوفر شروطه في الوقت القريب ولكنه الحل الوحيد في ظل هذا الوضع!