- فتحي محفوظ[1]
(تحليل نص شعري لمحمد محمد السنباطي[2])
أولا، النص:
[بعد آهةٍ مكتومة
يترك القطارُ مصابيحَ المحطة
والإعلانات التي على الجدران
منزلقا في الظلام المتوالد.
القيد في يدي ويدٍ أخرى غليظة.
ولد وبنت يغيبان في قبلة.
اليد الغليظة تكره يدي
يدي التي تحولت إلى شيء
مرتبط بشيء أكبر كثيرًا
هو أنا.
القطار في جوف النفق
النفق بداخلي]
ثانيًا، التحليل:
بكلماتٍ قليلةٍ حظينا بواحد من النصوص البديعة والتي لم تكن تحمل عنوانا شأن معظم نصوص الشعر الحديث. يتدفق النصُّبعذوبة بالغة بإبداع الشاعر محمد محمد السنباطي. يبدأ علي حين فجأة بآهةٍ موجوعةٍ لا بُدَّ وأنها قد انبعثت من عمق الأعماق إلي خارج الجسم، وتضاريس الجسم الموجوع تحتوي علي نفق، أو يمر إليها نفق، والنفق يستقبل قطارًا راعدًا مارقًا بعنفوانه. الزمان والمكان يلاحقان مسيرة القطار المتجه الي النفق. يكشف الزمان والمكان تفاصيل حركة القطار. تبدو اندفاعات القطار من الخلف الي الأمام متلازمة تشكيلية مع توالي صور عن مصابيح محطة القطار وسيل الإعلانات الهاربة في حركتها الضمنية المعاكسة من الأمام الي الخلف. هي حركة متوازنة عمادها إبراز حركة الفعل المزدوجة عبر السير في اتجاهين واحدة منها تشق اتجاهها من الخلف الي الأمام بسرعة انطلاق القطار الي النفق والأخري بسرعة ارتداد لمبات الإضاءة وسيل الإعلانات في حركتها الضمنية الجافلة الي الخلف.
أما حركة الزمن الأمامية فتتجلي في روعة التعبير عن الظلام المتوالد، والذي يتكثف عبر مراحل من الضوء الأقل إظلامًا إلي الأكثر كثافة. الظلام المتوالد تعبير مشتق من الولادة والتي تتضمن أفعالًا متعددة منها الإكثار والإنبات والتناسخ. تعبير يرسخ علي حركة الضوء بدرجات إظلامه المتدرجة. إنه يستوعب حركة الطبيعة واتجاهها منذ ساعات الأصيل الي زمن انطباق الحلكة علي المحيط الصاخب.
وفي حالة اشتقاق حركة القطار من داخل الجسم الي
خارجه، وفيما لو كان النفق واحدًا من أجزاء الجسم وقد تم تصميمه عضويًّا وفق
مقاييسَ تحدَّدَت بقدراتِ المجاز علي خلق بنية نفسية مكملة، وترسلها عبر اندفاعات
النفس المأزومة ، لتخرج الآهة من العمق .. من داخل الجسم عبر النفق . مساحة صاخبة
تتحدد بزمان ومكان مميزين ويحدها الحركة والاتجاه ما بين خروج الآهة ودخولها عبر
النفق، ولما كانت تلك المساحة مأهولة بأناس، وفيما كان يميزهم إثنان ولد وبنت
يتجمعان علي قبلة. والاثنان يمزجهما معًا نوعٌ من الروابط والألفة. نوع ما من
الروابط يتناقض مع روابط القيد الحديدي والتي جمعت بينه وبين الآخر. يختزل النص
ملامح الآخر في صورة يد غليظة معقودة بالطرف الثاني من القيد. يجمع
المشهد علاقة سافرة تتشكل من قيد مزدوج الطرفين يرتبطان في صعيد واحد بعلاقة استحواذ
وإكراه. القطار سادر في غيه لا يلوي علي شيء، وفي حركته تتحدد صورة محتومة بقواعد
الحركة والاتجاه، وتتحدد داخل احتمالات تتعلق بموقع النفق، وفيما لو كان النفق يقع
ضمن أجزاء الجسم الموجوع، أم إنه يقع علي مسافة من القطار يتعين عليه قطع المسافة
لبلوغ غاية يقصدها المُكره. ومن هنا لا بدَّ من اعتبار النفق كموقع وجزء مكمل من
المكان القصي، وفي تلك الحالة هل تنعدم الأواصر الجوانية والتي صدرت عنها الآهة
لتحتل الآهة مكانها من الخارج .. من موقع القطار الهادر حيث الصحبة الموجوعة،
والجمع بين طرفي النقيض: راكب القطار وصاحب اليد الغليظة وكلاهما يحيط به القيد
تشملهما معا تلك العلاقة من علاقات الإكراه ، ولكن ذلك لن يغير البتة من موقع
الآهة؛ فلا بُدَّ والحال كذلك من تصور صدورها من النفس الموجوعة والمضغوطة بسبل الإكراه.إنه
استيعابٌ لتلك الأزمة والتي تكثفت بشكل مطلق مع حركة القطار المندفع كالطلقة من
الخارج، حيث كانت الروابط متناقضة ومعكوسة الي الداخل المأزوم عبر نفق مذهل أو
عابرا له حسبَ موقع النفق والذي صُمِّمَ خِصيصًا لاستيعاب الحركة بعنفوانها
واتجاهاتها سواء أكانت الحركة من الداخل الي الخارج أو العكس. وفي تلك اللحظة ينتبهالشخص
المقاد إلى مصيره المجهول إلى شيء: لقد تشيأت يده، صارت مجرد شيء صغير موصول بشيء
أكبر منه كثيرًا هو كينونته. لقد تحول الإنسان بكليته إلى شيء، مجرد شيء، مأخوذ
عنوة، ويُقتاد إلى مجهول ستستقبله فيه وجوه لن ترى فيه سوى مجرد شيء.. يا له من نص!
[1]فتحي محفوظ روائي وناقد مصري من الإسكندرية
[2]محمد محمد السنباطي: شاعر، روائي، ومترجم من مصر.