- جميلة الميهوب
في تلك الأيام لم تشرق شمس ولم أرَ نهاراً. كنت نصف مستلقية في ركن سرير واسع داخل غرفة كبيرة. أراقب المطر من زجاج ناف
في تلك الأيام لم تشرق شمس ولم أرَ نهاراً. كنت نصف مستلقية في ركن سرير واسع داخل غرفة كبيرة. أراقب المطر من زجاج نافذة كبيرة منخفضة، ستائرها مفتوحة. أنتظر زيارة سيدة لا أعرفها. أعرف فقط اسمها.
جرس الباب يرن. إبني يفتح الباب مُرحبا ويسبق الزائرة إلى غرفتي. تناهى إلى سمعي وقع خطواتها الرشيقة الثابتة وهي تتبعه. وصلتِ الغرفة فطرقت طرقات خفيفة على بابها المفتوح. خلعت حذاءها ودخلت.
شابة في بداية الثلاثينات. وجه بشوش بعينين صافيتين فيهما الكثير من البهجة. بعد أن حيتني وصافحتني بيديها الاثنتين، اختارت أن تجلس على السرير قبالتي، بدلاً من الكرسي. تحسست جزءاً من غطائي بابتسامة ودودة، قالت:
ـ إشي إشي ما أحلاه. ماحلاه اليرغان قداش ناعم. إشي إشي..
وكأنها تنتظر أذناً.. أكملت:
ـ عادي نتغطى معاك؟ والا تعافي جمولة؟ حكتلي (نادية) إنك تعافي.
– نعاف! نعاف وردة زَيّك!؟ لا. لا يمكن. ـ كنت أتكلم وأحاول مساعدة نجوى على سحب الغطاء ناحيتها.
بفرح رددت:
ـ وردة.. وردة.. اليوم نروح نقول لفؤاد أني وردة، وبشهادة جميلة. معادش تناديني نجوى، ناديني وردة.
أرادت أن تكون قريبة، وأن تجتاز مراحل كثيرة لا وقت ولا مكان لها في مثل هذه الظروف.
علمتْ بوجودي من (نادية)، صديقتنا المشتركة، فقررت زيارتي بالرغم من عدم وجود معرفة بيننا. نادية شجعتها على ذلك.
تحدثت كثيراً. حدثتني عن نفسها، عن عائلتها في ليبيا، عن حلمها بأن يكون لها طفل. حلمها أن يكون لها طفل تحضنه وتحتويه من زوجها فؤاد الذي تحبه بجنون. طفل تغسل وتنشر ملابسه بيديها. حلمها أن ترى وتعيش فوضى الأطفال داخل بيتها. تحدثت كثيرا عن حلمها. تحدثت أكثر وأكثر عن زوجها. ازداد صفاء وبريق عينيها عندما تحدثت عن زوجها. كان يزداد اشتعالاً كلما ذكرت اسم فؤاد.
بحديثها التلقائي، الحنون بعثت نجوى شيئا من الدفء في روحي ونثرت حولي بعضا من بذور الأمل.
في تلك الفترة من بداية تساقط شعري، وقبل أن أفقده بالكامل، كنت أتجنب نزع الغطاء عنه خوفا على مشاعر الآخرين. رؤية رأسي الملطّع ببقع من بقايا شعر خفيف، متناثر يمكن أن تسبب أذى لذوي القلوب الرقيقة. نجوى واحدة منهم بلا شك.
أثناء حديثنا، وكما كان يحدث معي دائماً، بدأت حرارة جسمي ترتفع. وبدأ إحساسي بمسامير حادة وحامية تدق مسام رأسي. ارتفعت حرارتي أكثر. ازداد ألمي. شعرت بالنار تلهب رأسي. أزحت الغطاء عن جسدي.
– جميلة خيرك! خيرك جميلة؟ شنو في؟ شن تحسي؟
ـ معادش قادرة نتحمل. معادش قادرة نتحمل الحرارة! ممكن انّحي الطاقية؟ معليشي انّحيها؟
ـ طبعا، طبعا نحّيها. نحّي الطاقية، جميلة، نحّيها!
ما إن نزعت الطاقية حتى خفضت نجوى بصرها. لون وجهها تغير. أرادت أن تبدو طبيعية وقوية، لكنها لم تفلح. ظلت مرتبكة. حاولت للحظات تفادي النظر ناحيتي.
اعتذرتُ من نجوى مرة أخرى. وعندما رجعت حرارتي إلى الاستقرار، وعدنا إلى حديثنا، وأنا بلا غطاء رأس، رأيت في عينيها حزناً وألماً عميقاً لم أرَ أعمق منه إلا في عيون أولادي.
عادت نجوى لزيارتي أكثر من مرة. في كل مرة كانت تتكلم عن فؤاد، وعن حلمها الذي لا ترغب في تحقيقه إلا معه. كنت أتأملها بصمت وكنت أشعر أنها تشبهني. في كل مرة تزورني نجوى كانت تبعث شيئا من الدفء في روحي، وتنثر مزيدا من بذور الأمل في.
غادرتُ إلى ليبيا وانقطع اتصالي بكل من في كندا. بعد أن تعافيت ورجعت إلى كندا، سألت عن نجوى. بحثت عنها وبحثت بلا جدوى. كنت أرغب في لقاء نجوى وأنا بدون غطاء رأس.
أخبرتني صديقتنا المشتركة (نادية) أن نجوى اعتزلت الناس وغادرت المدينة إلى مكان مجهول، دون أن تحقق حلمها. فقد تخلى عنها فؤاد وتزوج امرأة أخرى، إثر إصابة نجوى بمرض نادر لم يُبقِ لها شعرة واحدة.
جميلة الميهوب
السقيفة الليبية، السبت 14 فبراير 2020
ذة كبيرة منخفضة، ستائرها مفتوحة. أنتظر زيارة سيدة لا أعرفها. أعرف فقط اسمها نجوى.
جرس الباب يرن. إبني يفتح الباب مُرحبا ويسبق الزائرة إلى غرفتي. تناهى إلى سمعي وقع خطواتها الرشيقة الثابتة وهي تتبعه. وصلتِ الغرفة فطرقت طرقات خفيفة على بابها المفتوح. خلعت حذاءها ودخلت.
شابة في بداية الثلاثينات. وجه بشوش بعينين صافيتين فيهما الكثير من البهجة. بعد أن حيتني وصافحتني بيديها الاثنتين، اختارت أن تجلس على السرير قبالتي، بدلاً من الكرسي. تحسست جزءاً من غطائي بابتسامة ودودة، قالت:
ـ إشي إشي ما أحلاه. ماحلاه اليرغان قداش ناعم. إشي إشي، ـ وكأنها تنتظر أذناً أكملت: ـ عادي نتغطى معاك؟ والا تعافي جمولة؟ حكتلي (فراشة جميلة) إنك تعافي.
– نعاف! نعاف وردة زَيّك!؟ لا. لا يمكن. ـ كنت أتكلم وأحاول مساعدة نجوى على سحب الغطاء ناحيتها…….