- قصة قصيرة :: حمد حاجي :: تونس
صدر قرار بوقفه عن دخول الفصل ليحاسب عسيرا على أخطائه.. واسْتُدْعِيَ أبوه.. لمكتب المدير.. ظلَّ الأب يضرب كفا على كفِّ.. حائرا بأمر ولده.. صباحا هو موعد عرضه على مجلس التأديب.. كان قلقه في تلك الليلة أشد من قلقه في سائر الأيام..اذ كان يحسُّ أنه عاجز عن تسكين صورته عند والده أولا وتحسينها عند بقية المعلمين بالمدرسة.. ان أحمد لا يطيق أن يترك مدرسيه كارهين له.. بجرم لم يكن اقترفه.. راح يتمشى بغرفته جيئة وذهابا مسرع الخطى مرتبكا يخمن بأمر وقوفه امام المجلس.. وبما تراه يقول.. تقلب على السرير محاولا النوم .. سيخبر أباه انه لم يقترف ذنبا ولكن لا جدوى ..الوالدُ متزمت قاس .. أه.. لو كانت أمه بجانبه لأفشى لها الحقيقة وربما لن تهمل كل كلمة منه .. ومن المؤكد لسوف يسرّ إليها بما يختلج بمكنون قلبه ..! انهمرت دفعة من الريح وسيل من رذاذ المطر غزيراأدى إلى فتح النافذة على مصراعيها.. ارتبك حين رأى النور بالبيوت المقابلة لبيتهم، لكنه فكَّر أن يخرج من الغرفة ويهرب.. نطَّ من الشباك .. ودار حول المنزل إلى خلفه، وحال دونه المطر الذي يرسل بينه وبين نوافذ الجيران البرتقالية ستارا من الماء.. ثم بدأ يعالج احدى النوافذ حتى انفتحت .. وتسلَّق في حذر ثم هبط من جدار قبو الطعام إلى البلاط وهناك وقف مذعورا يمسك أنفاسه من وقع حركاته.. وتأكد أنه لم يحدث ضجة ولا صريرا.. واختار أن يختبئ بالقبو للصباح.. وجد على مقربة منه صندوقا قرَّبه من شريط النور الذي ترسله كوة من فرن القبو .. وجلس عليه.. ولمَّا كان من طبعه الفزع من الجرذان.. لم يحاول أن يتقدم أكثر ويغيب عن بقعة الضوء بل لفَّ قدميه بذراعيه.. حتى تكونا تحت مراقبة عينيه.. اي تعاسة أن تقضمه تلك المخلوقات..أو تتلف أحد أصابع رجليه.. متوجسا قضى الليلة ينظر للظلام.. خيفة أن يتفطن إليه أحد.. ماذا لو كان أبوه سمع حركاته بالقبو.. وأطلق عليه النار يخاله من لصوص الليل؟ ماذا لو أقبل نازلا وبيده البندقية وصاح هو.. يبغي النجاة .. ومن فزع يجفل أبوه ويوشك يقتله؟ وعلى هذا الخاطر بات أحمد يكبح الهواجس في نفسه حتى ناداه أبوه في الصباح.. ولم يفكر قط بما سيقول أمام لجنة التأديب وفوَّت على نفسه فرصة التفكير بما يمكن أن يرد على المدير ومجلسه.. تمطى خارجا من القبو.. وها هو يدخل حجرة المجلس مرتبكا.. المدير حلَّ عروة قميصه وأسدل ربطة عنقه.. ولوى أكمامه.. وامتدت كرشه أمامه.. يرفع نظارته حينا ويتأمله أخرى متفرسا محملقا.. اما بقية المعلمين فكانوا يغرسون عيونهم في ملامحه ويلتفتون لحظة بعد لحظة لحذائه بينما بدا لهم الطفل بمظهر المتأنق يضع قلادة بها فص برقبته.. يسقط سرواله على حقويه.. ويضيق بنطلونه على كعبيه .. يبرز محمر الطلعة كما المدمنون على المخدرات، مضغوط الفم، ضعيف النظر يضع على عينيه نظارة يدور سلكها المصنوع من الخيط بعد تهشمها على قفاه ويرتكز على قوقعة أذنيه.. مما لاح أن الطفل بحق تحت شبهة الإتهام والعتاب والعقاب.. ولما سأله المدير : من ساقه إلى فعلته؟ أجاب أنه يريد أن يرجع إلى المدرسة .. وسكت.. وسئل معلموه أن يشرحوا شكاياتهم فبسطوها.. وعددوا منها التهم المتعلقة بالإزدراء.. تقول معلمة الفرنسية أنه مرتفع الكتفين، ضيق الصدر.. تلمع عيناه لمعة عصبية..يديرهما عامدا على نحو ينم عن العدوانية .. اتفق مرة أن صعد للسبورة ليكتب عبارة .. اقتربت منه المدرِّسة.. فارتدَّ متبرما منها وثنى يديه وراء ظهره .. تقول المعلمة.. أنه لم يكن خليقا به أن يؤذيها كل هذا الايذاء.. لو أنه ضربها لكان أهون.. وتدارك معلم العلوم أنه.. لاحظ أنه يشبك أصابعه ويظلل عينيه بيديه.. وكثيرا ما كان يلقي انشودة الصباح وهو ينظر عبر النافذة.. وأخذت الكلمة معلمة العربية : – إذا أنَّبتُه ترتجف شفتاه، ويرتفع حاجباه.. بينما غيره من الصبية ينكسرون وتدمع أعينهم .. وينفجرون بالصراخ في مثل موقفه.. وكان هو يستمع إلى أعضاء لجنة التأديب صامتا واجما.. ولا تظهر منه غير ارتجافة أصابعه عابثة بأزرار معطفه.. أو ارتعاش يده التي يحمل بها لفوق بنطلونه بين الفينة والأخرى.. كان كالقط الذي يناوشه المطاردون ويسدون عليه الفجاج .. ونطت منه كلمة: — سيدي.. لم أقصد الإساءة.. خلقني الله على تلك الحال..! منذ ولدت و انا هكذا اسألوها أمي .. لكن لا أريد أن تحترق بدمعاتي في قبرها.. بكى الطفل .. ذلك الطفل الذي لم يشأ أن يبكي .. هو أنا..!