المهدي يوسف كاجيجي
كل أصحابي كبروا وأتغير اللي كانصاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيانيا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبرالطرقات البيوت عم تكبر عم تكبرتخلص الدني وما في غير يا وطنييا وطني .. آه .. بتضلك طفل صغيرالابيات السابقة أبدعها الأخوان رحبانى، وصدحت بها فيروز، في اغنية ” قهوة عالمفرق “. إحساس يدركك عندما ينهكك السفر، وتغرب شمسك، ويمتد ظلك، ويسبقك رفاق العمر بالرحيل، فلن يبق لك إلا أن تتوكأ على ايامك الباقية، مدفوعا بالحنين إلى مرابع الصبا، تبحث عما ينشط الذاكرة الهرمة.
في ليبيا إن فعلت ستكتشف أنهم سرقوا منك الفرح والعمر، وما لم يسرقوه من تذكارات الوطن هدموه قصدا او جهلا.الابحار في الذاكرةدخلت طرابلس أول مرة، في الخمسينات من القرن الماضي، طالبا قادما من الجنوب، في رحلة استغرقت اسبوعا كاملا. كانت طرابلس عروسا شابة عفية، إيطالية الملامح عربية الروح ،الجالية الإيطالية كانت أكثر الجاليات الأجنبية تعدادا وتأثيرا، وصفها أستاذنا فاضل المسعودى رئيس تحرير جريدة الميدان رحمه الله بقوله : نافذة على الدنيا تعلمنا منها الكثير. كان من المفارقات الغريبة، احتفال ليبيا يوم 24 ديسمبر بعيد الاستقلال، والجالية الايطالية بعيد الميلاد، فتتحول طرابلس إلى كتلة من الضياء. في طرابلس شاهدت أول فيلم أجنبي في سينما الغزالة. كان شريطا من أفلام الرعب، عن “دراكولا” مصاص الدماء. أكلنا خبزة الشعير بالتن والهريسة، واحتسينا الشاهي المربرب بالكشكوشة، بجوار جامع السنوسية، في باب الحرية. دفعنا عشرة قروش كاملة، ثمنا لوجبة فاصوليا باللحم في مطعم البرعي، وحلينا بالدلاع الجنزوري، مقطعا إلى ابراج، في شارع عمر المختار، وانبهرنا برؤية الجالسين على مقاهي “الكورسو ” و “الاوروا ” و “الكوميرشيو “، وزبائنها من الاجانب والاعيان، وحلمنا بالجلوس معهم، ولكن مظهرنا وجيوبنا كانت لا تسمح بذلك. التقطنا صورا بالكوفية والعقال، عند أشهر مصور ايطالي في طرابلس ” السنيور براقونى ” وخرجنا في مواكب الاحتفال بالمولد النبوي، وتجولنا في المساجد والزوايا العتيقة، وقرأنا الفاتحة فيها تقربا للخالق العظيم، ودعونا بالرحمة لأصحابها، وجلسنا على ركابة جامع ميزران، وشربنا من ماء حنفيته الشهيرة. اختلسنا النظر لنراقب الطرابلسيات وهن يتبخترن خجلا بفراشياتهن في سوق المشير، وتسكعنا في ازقة المدينة القديمة، واستنشقنا عبق التاريخ الممزوج بروائح العطر والزهر المقطر المنبعث من خلف الحوائط القديمة.
احتضنتنا المدينة، وداعبنا اهلها بمناداتنا بالشلافطية، ومع الزمن حصلنا على حق المواطنة، والبعض منا حصلوا على شرف المصاهرة. في الستينات بدأت عوائد النفط تضخ في عروق الدولة الفقيرة، وازدهرت الحياة الاقتصادية، وشهدت البلاد نهضة تعليمية شاملة، ونجحت الجامعة الليبية في توًفير كوادر وطنية للدولة الجديدة، وتفتحت ازهار شابة واعدة في كل القطاعات، تجربة لو كتب لها الاستمرار لكانت ليبيا بلدا فريدا في منطقة الشمال الأفريقي.ماذا فعلنا بأنفسنا؟!أدركني تعب السنين، وشدني الحنين إلى ايام مرابع الصبا، فتوكأت على سنوات عمري وخرجت بحثا عن الذكريات بين ما تبقى من التذكارات، ويا الله.. ماذا فعلنا بأنفسنا؟ – وماذا فعلت بنا الأًيام؟ شاخت طرابلس، او كما يقول اهلها ( تهدرشت ) مبانيها غزتها البداوة، وشوهتها العشوائيات. أبار المياه حفرت في شوارعها، ومخلفات المجاري شكلت مستنقعات في أحيائها. اختفى نخيلها الباسق من على كورنيشها البديع ” اللونجو ماري ” وحلت أكوام القمامة، سرقت كل التذكارات التي جمعتها المدينة عبر حقب تاريخها، تمثال سيبتيموس من ميدان الشهداء، والتحفة النادرة لتمثال. الغزالة الشهير، وظل الميدان الشاهد الوحيد على الجريمة، بيوت العبادة، ميراث النور من مساجد وزوايا عتيقة، غزتها جحافل الظلام في الليالي الحالكات وتحت قوة السلاح ومعاول التهديم، تم سرقة كل المخطوطات النادرة والمقتنيات النادرة، التي جمعت عبر كل الحقب والعصور وهدمت المباني التاريخية ونبشت الأضرحة لإخفاء جريمة السرقة تحت صياحات التكبير.
المدينة القديمة تحولت الى كتلة من القذارة، وتجمع للأوبئة، ومرتع للحشرات الزاحفة، والحيوانات القارضة، ومصدرا للروائح الكريهة. اختفت الوجوه الباسمة واعتلا الحزن والبؤس الوجوه.سادتنا متى تتعبون؟؟!في شارع النصر، كان لنا جار هولندي، يعمل في قطاع النفط، اعرف انه وزوجته عاشقان لطرابلس وطقسها. بعد سقوط النظام الملكي، قررا المغادرة، واشتريا بيتا على البحر، في اقليم اليكانتي بإسبانيا، لتذكرهما بطرابلس. وعندما سألته عن السبب؟ – قال هامسا: يا صديقي بخبرتي، القادم لا يبشر بالخير، إنه بداية المتاعب. انا على ابواب التقاعد، وأريد أن اعيش ما تبقى من عمري في سلام، وأحتفظ في قلبي وعقلي بكل صور البهاء والجمال لبلدكم وأهلها. وقتها لم استوعب وأدرك ما قاله الرجل، والآن وبعد مضي ما يقرب من نصف قرن من الشقاء والتعب المتواصل، ما بين سبتمبر العظيم، وفبراير المجيد، انهكتنا فيه الأيام والسنون، يحيرني سؤال أطرحه على سادتنا المتواجدين والمتصارعين في المشهد الليبي: سادتنا، لقد تعبنا.. وأنتم.. ألم تتعبوا بعد ؟!.
* الصورة:كورنيش طرابلس الذى كان ! ،والغزالة المسروقة ،موضوع سبق نشره .