بقلم “” سعاد الصيد الورفلي
«وجهه كتراب الخابية، يبدو التشقق الذي ينحدر من أعلى ناصيته محدثا التواءً يتجاوز محجر العين إلى شحمة الأذن، وذاك التعريج ينبئ عن عمره الذي يشتاق لستين التقاعد، وهو يسحب كرسي القعود تحت شجرة اللوز اليابسة؛ مبهوت النظر إلى يديه اللتين تكرمشت صفحتاهما وهما كانتا أنضر جلدا وأينع عرقا.. قال في نفسه: أنظر إلى محياك الذي يشبه ورقة دخل عليها الخريف من دون استئذان فقطف أطيب الثمار وحولها إلى حشف تتجنبه الكائنات».
إن القراءة تتنوع وتتعدد؛ وليست كل قراءة هي عمق وسبر لأغوار أي نص أدبي، مهما كان نوع هذا النص شعريا أم نثريا.. فالأنواع الأدبية متشعبة وواسعة؛ بل صار الإيماء رمزا، إضاءات تنضوي تحت الومضة، أو القصيرة جدا، حتى أنفاس الشعراء تحولت إلى دارات تفصح عن شاعر يخفي وراء تنهيدته ما يخفيه.
ولكي تصبح القراءة بُعدا مليئا بالبذخ من المعاني والأطوار المتعددة لتشريح النص الأدبي؛ وجب أن يكون مسار القراءة محددا على ضوء نوع القراءة وكيفية تناول النص بالمعالجة النقدية، فالنقدية أيضا- أنواع حسب الأذواق.. فهناك الناقد الذاتي (المشخصن) وهناك الناقد الموضوعي (الممنهج) وكلا المدرستين لها أصولها ومداركها وأقفالها ومفاتيحها.
قراءتك للنص وأنت تقرأه ثم فورا تقول (جميل ـ رائع) وتتوقف هذا يعني أنه يروق لك ويعجبك، فكانت قراءتك من الفطرة الذاتية من حيث الإعجاب وعدم الإعجاب، لكن أن تقف على النص وترسم حدوده وتقسم أطره وتشرح كلماته ومساحاته وسطوره وتبحث عن رمزيته التي تشبه المتاهة.. تلك هي الدراسة النقدية الذوقية المحكمة التي تقوم على أسس المنهج العلمي الأدبي. وقد تمثلت في بداية مقالتي بنص أدبي أردتُ أن أثير حوله الذوق والنمط.
ما هذا النص؟ وليكن كل قارئ الآن متجردا من شخصيته الذاتية؛ محركا الذائقة لديه لينظر بعين الجمال أو بعين أخرى غير التي ينظر بها، فهناك عيون تدقق وتفحص وتمعن النظر وتختلط بالذوق محدثة استفزازا للنص والكاتب، تجعله يفغر فاهه استعجابا واستغرابا مما أحاطه من تشريح لجسدية نصه وحط اليد على نقاط الإثارة في نصه، بينما هو ربما ذكرها اعتباطا، من دون أن تلفت قريحته، لذلك وهذا ما نسميه استيقاظ النص النائم.. فيعوم في حدقة التمحيص والتحريك، ما ينبئ عن مراكز حس تحرك كل أعصاب الدراما الأدبية في النص ” وجهه كتراب الخابية، يبدو التشقق الذي ينحدر من أعلى ناصيته محدثا التواءً يتجاوز محجر العين إلى شحمة الأذن..” الصورة غير المباشرة هنا حينما يوظف الكاتب التعبيرات البيانية مرتكزا على التشبيه، فمن هذا الذي يبدو وجهه كتراب الخابية ولماذا تراب الخابية؟ هو ذكره هكذا لربما طرأ على نفسه أن يكون كذلك، ولربما كان الكاتب ابن بيئته التي تستعمل هذه المفردة. أشياء كثيرة تجعلنا نقف حائرين حيال هذا الوصف «كتراب الخابية»! ثم يقول الناقد المتذوق: نعم الخابية لا تدخلها الشمس، ترابها بارد أصفر باهت اللون، كأنه مصاب بشحوب، أو أراد أن يكون النص؛ أن الرجل أو ظل الرمز في ذلك النص باهتا… على أن تقول: رجل أصفر اللون أو شاحب اللون أو كالح الوجه مليء بالتجاعيد.
فجاء النص الأدبي ليحكي لك شخصية حية متحركة يغمسها في طين الأرض يحول من التجاعيد التي تشقُّ وجهه إلى علامات ومتاهات وطلاسم تحتاج إلى قراءة..كتلك الخطوط المرتسمة على ظهر الأرض.. ربما يراها ضارب الرمل على غير ما نراها نحن! الموسيقِي يرى في الخطوط درجا موسيقيا.. قد يضيف إلى نوتته نوعا آخر من السيمفونية يعاني ليلته كي يحلب ضجيجها من ذلك الأثر. الرسام يرى في خطوط الأرض بحرا يابسا. القاص يرى الكثير، يرى فيها السر والمعنى والرمز، يرى فيها الرحم.. الأنثى والمخاض، يرى فيها أمة كبيرة تحت ذلك الشق ربما هم أصغر أحجاما منا يظهرون في الليل من شقوقهم محدثين ضجيجا يشبه ضجيج الذبذبات التي لا نعرف كيف نعبر عنها، فالتشقق الذي ينحدر من أعلى الناصية هو خط التجاعيد الذي يشق وجه ذلك المتصور الرمز إلى شقين.. الشق الذي ينحدر من الناصية لتفوق التفكير، كأنه يقول هذه الشخصية هي عن رجل حكيم لا يستعمل إلا التفكير حتى انشقت ناصيته.
هذه إحدى القراءات ستغمس في زيت التفكير وتعصر ذوقها في معاني الحس. المخيال العربي أوسع ذاكرة وإن كان البعض يرى عكس ذلك. المخيال العربي فيه عمق الصحراء، الصحراء ليست قطعة أرض شاسعة ممتدة كلما نظرنا، امتد بصرنا، كلا.. إن الصحراء فيها آثار الحوافر والسنابك.. وحفيف شجر لا يسكنها وأصوات لا يعرف مصدرها.. وجفاف تعيش فيه كائنات تمر تاركة آثارها كخطوط في رقعة قديمة يستدل عليها المارون يعشش فيها صخب الحياة. فالمخيال العربي يحتاج إلى قراءة مركزة على الذوق لا النمط.. فالنمطية هي أن تكون تقليديا في دراستك لنص أدبي مثلك مثل أي قارئ لا يملك أدوات التشريح الأدبي البلاغي الموضوعي.. كن أنت الرمز في النص الأدبي وتحرك ببراعة، هذه هي الدراسة النقدية الذوقية، فكلما تحرك الذوق على رقعة النص الأدبي، زادت وتيرة النص وتهيجت مراكز الإثارة والحس فيه.