المحامية فاطمة موعاذ محمد
عنصر الإلزام في قواعد القانون الدولي . تَشكل القانون الدولي عبر مراحل عديدة من مراحل التاريخ البشري يصعب الجزم ببدايته، والذي يهمنا في الوقت الراهن هو ما انتهى إليه تعريف القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية متجاوزاً المذهب التقليدي والمذهب الموضوعي للاتجاه الحديث فهي مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقات بين أشخاص القانون الدولي (الدول والمنظمات)، ويمكن الجدال في هذا التعريف بطبيعة الحال، فقد وضع لتعريف المصطلح ما يزيد على مئة تعريف. من أكثر مسائل القانون الدولي تعقيداً هي مسألة عنصر الإلزام ومعنى ذلك ما يجب على الدول والمنظمات الالتزام به من قواعد القانون الدولي وعدم مخالفتها، والخلاف في هذا العنصر جعل من بعض فقهاء القانون الخاص وغيرهم ينفون عن قواعد القانون الدولي الطبيعة القانونية وينظرون إليه بنظرة الريبة والشك، ذلك لأنها لم تصدر عن سلطة تشريعية عليا وليس لها سلطة حاسمة على الدول والمنظمات. واعتبر الفقيه الإنجليزي جون أوستن أن ما يطلق عليه قانون دولي إنما هي مجرد أخلاق دولية وضعية تفتقر إلى الصفة القانونية الإلزامية ولا يترتب على مخالفتها أي مسؤولية قانونية. ويمكن استخلاص هذه الاعتراضات على النحو الآتي:
1- أنها لم تصدر من جهة تشريعية أعلى
. 2- لا توجد سلطة قضائية تتولى فض المنازعات وإصدار الأحكام وفقا لهذه القواعد.
3- لا يوجد جزاء منظم وواضح يطبق على الدول والمنظمات المخالفة. نلحظ أن الاعتراضات التي تبناها جون أوستن ومن بعده إلى يومنا تتركز حول عدم وجود جهة أعلى من الدول تسن هذه القواعد، كما هو شأن التشريعات الداخلية التي تصدر عن السلطة التشريعية بداخل الدولة، بل تنشأ من خلال الاتفاقيات الدولية متساوية السيادة، ولا توجد سلطة قضائية تتولى الفصل بين المنازعات الدولية وتطبق هذه القواعد، كما لا توجد سلطة تنفيذية تطبق الجزاء على الدول المخالفة. لذلك يجب علينا التفريق بين عدم وجود سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة وبين الصفة الملزمة للقواعد القانونية الدولية، وهو ما سأتطرق إليه في هذه المقال، فعدم وجود هذه السلطات لا يجرد القواعد الدولية من قوتها الإلزامية في نظر كثير من فقهاء القانون الدولي، وتعدد النظريات التي تعرضت لهذه المسألة دليل على ذلك، وهي كالآتي:
1- المذهب الإرادي: يذهب أنصار هذا المذهب إلى أن الإرادة العامة للدول والمنظمات هي القاعدة التي يقوم عليها عنصر الإلزام سواء كانت إرادة صريحة أم ضمنية، وتشبه هذه الإرادة إرادة الدول المنفردة في سن تشريعاتها الداخلية، فالقانون الدولي هو الإرادة المنفردة للدول في الالتزام بقواعد القانون الدولي، وبالتالي فإن هذه الدول لا تتقيد إلا بالقواعد القانونية التي وافقت عليها مسبقا وتعهدت بالالتزام بها، مما يعني أنها قررت التقيد بهذه التشريعات من تلقاء ذاتها وبملء إرادتها دون ضغوط خارجية أو بسلطة أعلى منها، فالدول بإرادتها تقيد نفسها بقواعد القانون الدولي. بينما يرى فريق آخر من نفس المذهب أن الإرادة المشتركة للدول هي التي تلزم الدول بهذه القواعد وتعرف بنظرية الإرادة المشتركة وهي على عكس نظرية الإرادة المنفردة، وتقوم هذه النظرية على اعتبار أن إرادة الدول هي الأساس الذي تستقي منه قواعد القانون الدولي عنصر الإلزام، واستنادا على هذه النظرية فإن نظرية الإرادة المنفردة تصبح هشة بحيث أن أي دولة تستطيع التحلل من الالتزام بالقانون، بينما تجمع الإرادة المشتركة الدول للالتزام واحترام القوانين بما يشبه العقد ، ولكن ينسحب على هذه النظرية أيضا ما قيل في نظرية الإرادة المنفردة، فبإمكان أي دولة الانسحاب وعدم الالتزام، كما أن الدولة المنضمة حديثا لا يلزمها ما تم الاتفاق عليه مسبقا ولم تشارك في صياغتها.
2- المذهب الموضوعي: ينحى هذا المذهب عكس المذهب الإرادي الذي يقوم على الإرادة الذاتية للدولة دون وجود أي ضغط خارجي، وأن القانون عبارة عن هرم والقواعد القانونية مجموعة هرمية متدرجة من الأعلى للأسفل وكل قاعدة تستمد قوتها القانونية من القاعدة التي تعلوها مرتبة إلى أن تصل إلى قمة الهرم حيث القاعدة الأساسية التي هي قاعدة قدسية الاتفاق والوفاء بالعهد وهذا مذهب المدرسة النمساوية، وذهبت المدرسة الفرنسية ذات المذهب، غير أنه مذهب ضعيف ولا يرقى بأن يكون مذهبا عمليا ملزما للدول.
3- إرادة الفئة المسيطرة: ذهبت المدرسة السوفيتية مذهباً مغايراً وتقوم على فكرة الصراع الطبقي وأن القانون الدولي عبارة عن إرادة الطبقة المسيطرة ومراعاة مصالحها، ويعتبر هذا المذهب الأقرب للواقع من ناحية عملية، لوجود خمسة دول ثابتة العضوية بمجلس الأمن وتملك حق الفيتو بحيث أن أي قرار يجب أن يكون بموافقة الخمس دول العظمى، وفي حال اعتراض أي دولة منهن على أي قرار يصبح غير نافذ، كما أن الدول العظمى حين تقوم بأي عملية أو تقرر أي قرار لا تستطيع أي دولة من الدول الأخرى غير هذه الخمس الاعتراض عليها ومحاسبتها إلا اللهم التنديد وإبداء القلق. وفي نهاية المقال فإن الخلاصة من هذا الموضوع القيم : عنصر الإلزام من ناحية نظرية غير واضح المعالم ولا يوجد ما يلزم الدول على الالتزام بقواعد القانون الدولي سوى المعاهدات والاتفاقيات التي تستطيع التحلل منها، ولا زالت نظرية السيادة المطلقة للدولة هي النظرية الراجحة، وما تلتزم به الدول تلتزم بإرادتها لا بموجب قانون قد يوقع عليها جزاء هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الإرادة المشتركة بين الدول هي القوة الملزمة لتطبيق قواعد القانون الدولي، في حين ترى مدرسة أخرى أن تطبيق القانون يكون من قوة خارجية قائمة على هرمية القانون وأن ضرورة الاتفاق والتعايش السلمي هو ما يلزم هذه الدول على الالتزام، ويمكن اعتبار هذا الجانب جانبا نظريا، أما من ناحية عملية واقعية فالنظرية السوفيتية هي الأقرب فهو على خلاف ما طرحته النظريات الافتراضية الغامضة، غير أننا تناولناها من ناحية التدرج في معالجة الموضوع الذي سيكون الجزء الثاني منه حول إلزامية قواعد القانون الدولي من منظور منظمة الأمم