تنبيه أو تحذير وإعذار/ هذا المقال طويل ومُركّب ومُعقد، قد لا يقرأه الكثيرون منكم أيها الكرام، ولكم العُذر في ذلك، لأننا شعب متعجل ومستعجل في كل شيء، باحثين عن لا شيء، لكنه سيبقى أو أرجو أن يبقى، إحدى مرجعيات الباحثين عن حقيقتنا نحن الليبيين، إذا أردنا حقاً وفعلاً أن نبقى وأن نكون.
جــمــعــتــكــم مــبــاركــة..في لقائي الوحيد الأول والأخير معه يوم 2010.7.29، بفندق الريكسوس بمدينة بودروم التركية، سألني المهندس سيف الإسلام، وقد اتخذ حديثنا سياقاً سلساً هادئاً، أليست لــيـبـيــا والليبيون أقرب إلى المتوسط وإلى أوروبا منها ومنهم إلى أفريقيا والعرب، ؟؟.. كان سؤال الشاب ومشروع الوريث، الحائر يومها بين طموحاته الكبيرة وانكساراته الأكبر، يستبطن وربما يستظهر محاولةً لتأكيد تفكيره الإصلاحي الملتبس، وتوجهاته التحديثية المتعجلة، في وضع لـــيـبـيــا دولةً وشعباً حيث يرى أنها يجب أن تكون، على مشارف أوروبا، لا في مدخل أفريقيا، ولا في قلب العرب، وذلك في ظنه السبيل لتحديثها وتقدمها وتطورها، لكنني فاجأته بردي أو رأيي الذي أثبتته الأيام والمتغيرات بعد أقل من عام من ذلك اللقاء وذلك التاريخ، حين حدث ما حدث وتم إسقاط صور القائد وشعارات النظام في امساعد والزنتان، في نفس اليوم 15 فبراير 2011، رغم أن بين القريتين أكثر من 1500 كيلومتر.
قلت له :- قد أفاجئك يا مهندس سيف الإسلام، إذا قلت لك إن الليبيين، ومع الأخذ في الاعتبار عبقرية الجغرافيا الليبية، وتعقيدات التاريخ، هُم نسيج وحدهم لا يشبهون إلا أنفسهم، فلا يمكن حسبانهم بالكامل على العرب مشارقة أومغاربة، ولا الأفارقة ولا أوروبا، فالليبي ليبي عربي كان أم أمازيغي أم كرغلي أم تارقي وتباوي، الليبي لا يشبه إلا الليبي، بكل تعقيداته النرجسية وتركيباته الشوفينية، حتى أنّ الليبي المقيم في امساعد والجغبوب يغضب منك إذا اعتبرته أقرب إلى مصر منه إلى الليبي الموجود في رأس اجدير وزلطن والجميل وغات وإيسيّن، الذي يغضب منك أيضاً إذا اعتبرته أقرب إلى التونسي والجزائري، رغم ما تتمتع به الدول الثلاث من تاريخ وعراقة، وحتى إسلام الليبيين الذي يتمسكون به ولا يتنازعون فيه هو إسلام ليبي، سهل ممتنع غير مؤدلج ولا مثقل بالإجتهادات، وغير محمّل بحمولات تأويلية معقدة كتلك الموجودة في التأويل الإسلامي المشارقي، وهو أقرب ما يكون إلى الإسلام المغاربي المقاصدي.إنقضى ذلك اللقاء ومضى التاريخ، وحدث ما حدث خلال عشر سنين وعامين من تقلبات الزمان والسنين، مما لم يكن في الحسبان، وها أنذا أعود إلى استحضاره من الذاكرة القريبة، ليس استدعاءً حنينياً للماضي، لكنه إذكاء عقلاني للبحث الواجب عن من نكون نحن الليبيون، في ظرف تاريخي حرج، تلوح فيه كوالح الأيام أكثر مما تلوح منها الموالح.
بعض المثقفين والدارسين الليبيين في العلوم الإجتماعية والنفسية، وهُم ليسوا كثرة، ولا إبداعات معرفية متميزة لهم، ولا مساهمات علمية وعملية في تحليل وتفكيك كوارث وأزمات المجتمع الليبي، والشخصية الجمعية والفردية الليبية، وكثير من المثقفين الذين يمارسون هواية أو في الحقيقة عُقدة جلد الذات المجتمعية الليبية، بغباء وازدراء وتبسيط سخيف، يعتمدون على كتاب الباحث التونسي الراحل المنصف ونّاس {تُوفي في نوفمبر 2020} الذي أسماه [الشخصية الليبية ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة]، وهو كتاب متهافت انطباعي، أقرب إلى مقالة الرأي الطويلة، منه إلى البحث العلمي المُحكّم والموثوق، يعكس في جانب كبير منه خليقة الإزدراء والتعالي التي تمارسها بعض الإنتجيليسيا التونسية الفرانكوفونية، على الليبيين ربماً جهلاً أو تجاهلاً، وربما حسداً من عند أنفسهم.كتاب أو كتيّب المنصف ونّاس، الذي يتخذه البعض مرجعاً في تشخيص الذات الليبية، يتعامل مع ما يسميه الشخصية الليبية بطريقة ستاتيكية جامدة، أقرب ما تكون إلى التصنيم والنمذجة والقولبة، وأبعد ما تكون عن المدارس الحديثة في العلوم الإجتماعية، وتفريعاتها السيكولوجية، والسوسيولوجية، والسياسية، والميتولوجية، والإنثروبولوجية، والتي تركز على كيمياء النفس البشرية وتمظهراتها الفردية والجمعية والمجتمعية، وتأثيرها في الواقع المجتمعي والدولتي، وتأثرها بالظروف والمتغيرات الوقتية والزمنية، وتبدلاتها وحالاتها وتفاعلاتها وانفعالاتها، ليس فقط على المديين الزمنيين المتوسط والطويل، بل في اليوم والليلة. وهذا ما شخّصه ولخّصه القرآن الكريم، أبدع وأبرع وأبلغ ما يكون التوصيف والتصوير الإلهي للإنسان {محض إنسان في كل زمانٍ ومكان}، في ثلاثية الـهَـلـوع .. الـجَـزوع .. الـمَـنـوع.فجاء وصف [الـهَـلـوع] مُطلق، أي طبع وفطرة في النفس البشرية العاقلة، المُكلفة بحمل الأمانة منذ أب البشر آدم عليه السلام، إلى قيام الساعة، وجاء وصف [الــجــزوع] لوصف حال الإنسان إذا مسّه الشر، وما يترتب عنه من أذى وضُر،وانتقل الوصف إلى [الـمَـنـوع]، في حالة الخير أي النعمة والسلطان والوفرة في الرزق، ثم وفي استباطٍ عظيم يعكس حكمة الخالق عزَّ وجلَّ في إرسال الأنبياء والرسل بالأديان، ليكون صلاح الإنسان بالإيمان، يقيناً في القلب، ورسوخاً في النفس، وثباتاً في الوجدان، وعملاً بالجسد، وتعبيراً باللسان، حيث ربط الحماية والوقاية من الآثار السلبية للهلع والجزع والمنع، بالصلاة والدوام عليها، وفي الزكاة والصدقات باعتبارها حق معلوم للسائل والمحروم، وليست مِنّةً من المانح ولا جميلاً له على الممنوح إليه، ثم بالتصديق بيوم الدين، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى اللهَ بقلبٍ سليم.
أعود إلى مسألة الشخصية الليبية إن جاز لنا تجاوزاً استخدام هذا المصطلح، وضرورة البحث فيها والبحث عنها، لأقول / إننا بحاجةٍ شديدة، ونحن في مقام التماس إنقاذ لــيـبـيــا الكيان والوطن والإنسان من مهاوي العدم، وإبقائها في مدارات الوجود، إلى عملية نقد ذاتي فردي وجمعي شاملة، وآليات تفكيك معرفي منهجي ثقافي لأزماتنا ومشكلاتنا، وهذا لا يمكن وجوده إلا بوجود مثقفين وطنيين، وباحثين ودارسين أكفاء ومجتهدين، يتخذون من الباحث التاريخي الإجتماعي الفيلسوف الكبير المصري الراحل (جمال حمدان) أُنموذجاً وقدوة حين كتب وأصدر مؤلفه ومصنّفه المعروف {شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان} في أربعة مجلدات تحتوى آلاف الصفحات، حيث ربط العبقرية المصرية بالمكان أي الجغرافيا، بكل مقوماتها من الموقع الفريد الرابط بين أفريقيا وآسيا، إلى نهر النيل الذي تُعتبر مصر هِبته ويُعتبر سر وجودها وبقائها ومكانتها عبر التاريخ، ومقامها القرآني ملاذاً للباحثين عن الأمان عبر الأزمان.وللأستاذ الدكتور جمال حمدان كتاب مهم جداً عن لــيـبـيــا، لم يقرأه معظم الليبيين، وربما معظم المثقفين الليبييين، صدر عن مكتبة مدبولي سنة 1996 بعد وفاة المؤلف بثلاث سنين، جاء في 300 صفحة، وعنوانه {الجماهيرية العربية الليبية- دراسة في الجغرافيا السياسية}، ربط فيه كما فعل مع بلده مصر الوجود والتأثير والآثار السلبية والإيجابية لحركة التاريخ وللمتغيرات الكبرى، بالجغرافيا أي بالمكان، متتبعاً التطور الجيبوليتيكي أي الجغرافي السياسي للكيان الليبي، مستعرضاً عوامل القوة والضعف في هذا الكيان عبر التاريخ، وصولاً إلى قيام الدولة الليبية المستقلة قبل 70 عاماً.وإذ يجب أن نتعامل وبتجرد وموضوعية مع التاريخ ورجالات الوطن، وأن ننصف وإن متأخرين جداً من يستحقون الإنصاف والإعتراف، فإنني لابد أن أذكر وباحترام شديد ذلك الليبي المثقف الوطني الشاب، الذي جاء في غير زمانه، ومضى دون أن ينصفه الزمان والمكان، وأقصد الأستاذ السياسي والشاعر (عبدالحميد البكوش) رحمه الله، الذي تولى وكان عمره 34 سنة رئاسة وزراء لــيـبـيــا سنة 1967 ولمدة سنة واحدة، ثم أزاحته القوى التقليدية المسيطرة على السلطة آنذاك، قبل أن تزيحها قوة عسكرية شابة بعد إزاحة البكوش بعامٍ واحد. طرح الأستاذ (عبدالحميد البكوش) في نوفمبر 1967مشروعه الوطني التنويري السابق لظروفه وزمانه، والمعروف بـ الشخصية الليبية، والذي ظلمه الزمان وطواه النسيان، وما أحوجنا اليوم إلى إعادة قراءته وفهمه وتحليله، والإستفادة منه في صياغة المشروع الوطني المعرفي العملي المتكامل لبناء الدولة الوطنية الليبية الجديدة المنشودة. ما أحوجنا أيها الكرام، وأعتذر منكم وقد أثقلت عليكم في يوم العطلة هذا، إلى صياغة وتقديم تصور منهجي متكامل للشخصية الليبية، بأفكارنا واجتهاداتنا وأقلامنا وألسنتنا نحن الليبيين، لأننا نعرف من نحن، ويجب أن نعرف كيف يجب أن نكون، ونحن بكل ما نملك من مقدرات ومقومات نستطيع بإذن الله أن نكون..