محمد بوعجيلة
وكانت صرختي هي أول الكلام
أول الأشياء التي أقابل بها وجه العالم
وأول الأشياء التي تلاشت تدريجيا
وأنا في حضن أمي
منذ أن جئت
وكان الصراخ
طريقة التعبير الأولى
طريقة الإنسان
حين يتألم
حين يقلق
حين يجوع
وحتى، حين يأتي إلى هذا العالم
منذ ذلك
عرفت أن مشوار الألف يبدأ بالزحف
نحو عُلب الحلوى
ثم تأتي الخطوة
ثم نكبر فجأة ولا نصل أبدا إلى الألف ميل
كانت كل الأشياء التي أسند روحي عليها
تخذلني
ستارة
طرف الكنبة
مكتبة والدي
مسند الصالون
وأشياء أخرى كثيرة جدا
كانت كل الأشياء التي أسند روحي عليها تخذلني
فيما عدا
كتف أمي
يد أمي
حضن أمي
وحتى عندما كانت تبين أنها تخلت عني
تضعني فوق الثلاجة
فوق التلفاز
فوق الأشياء المرتفعة
كنت أبتسم
كنت أعرف أنني في فضاء آمن
وأن الجاذبية تحب أمي
وأن الفيزياء تحب أمي
وأن رأسي الثقيل في حضرة أمي
لن يخذل توازني
منذ أن جئت
تعلمت حرف ” أ ” ..
وتعلمت الأرقام 1،2،3
تعلمت بعد الرقم الأخير تسعة ..
تعلمت ” الصفر “
كانت المعلمة تخفي ذلك الرقم
وكأنه الحقيقة الوحيدة المطلقة
في هذا العالم
منذ ذلك
كانت أمي رقم 2 تقبل القسمة علينا جميعا
كان أبي رقم 1 لا يقبل القسمة إلا على نفسه
كان كلما ضربنا بشكل ما
نعطي نفس الناتج
وكانت أمي تزيد من قوتنا أضعافا
وكنت أنا لهذه الحياة
مجرد صفر
فكلما ضُرِبت .. كانت أشيائي فارغة
منذ ذلك
وأنا أرسم العالم على هيئة رجل يصرخ
يبكي دموعا على هيئة أطفال
أحد هؤلاء الأطفال
كان دمعة عالقة ترفض السقوط
كنت أتدحرج بقلمي صوب العلم
وكانت مواد العلوم اختياري
فالكيمياء علمتني كيف أخلط كلام الناس جميعا
أصنع منه بخارا
يتكثف ويخرج على هيئة لعنات وشتائم بالتقطير
والفيزياء علمتني أن أكون التفاحة
التي تسقط في المكان الذي لا يوجد فيه نيوتن آخر
كي لا يكون سقوطي مدويا ..
وفي النهاية أتهم الجاذبية
منذ أن جئت
وأنا أحلم بأنني طبيب أسنان
أرسم ابتسامة على وجه العالم
ثم فجأة اكتشفت أنني مجرد ضرس قديم مخلوع
ثم ماذا؟
ثم بحثت في علم الأحياء الدقيقة
وجدت نفسي بين البكتيريا والفيروسات
الطحالب والفطريات
كائنات مرئية لا ترى بالعين
لكنها تعبر عن وجودها بشكل آخر
منذ أن جئت إلى هذا العالم
ظننت أن الحياة تبتسم
لكنها وللأسف تصرخ
تصرخ هي الأخرى
جعلتنا نبحث عن طرق كثيرة
ورغم الفشل في كل مرة
نعود،
ثم بشكل ما نحاول أن نكتب ذلك الصراخ