علي جمعة إسبيق
السـفينة الصغيـرة تتقاذفهـا الأمـواج، الأمطـار لـم تنفـك عـن الهطـول، وكأن البحـر يهاجمنـا مـن السـماء، لا ش ي ء سـوى دعـوات والـدي، صرخـات والـد تي التي قطعـت آلاف الأميـال، مـن الأنبـار في العـراق وحتـى قربنـا مـن سـاحل مدينـة سوسـة، كان مـن المفتـرض أن تحـط الرحلـة في دولـة تونـس، لكـن ربـان السـفينة سـلم أمـره للأقـدار.
جـدتي التي لا تنـسى كل روايـات أمهـا عـن ولادتهـا في سـفينة أثنـاء فرارهـا مـع جدهـا مـن براثـن تنظيـم الدولـة الإسلامية) داعـش (في العـراق، تـرد ملحمـة الهـرب مـن جنـاح جـواري الخليفـة وحتـى الوصـول إلى نهايـة المطـاف، تطـرح دائمـا أسـئلتها التي جمعـت في سـؤال واحـد، كيـف اسـتطاعت أن تنجـو مـن كل المخاطـر ثـم تمـوت يوه تضـع طفلتهـا الأولى؟
وجـدي الـذي تجشـم كل الصعـاب، وحـارب لأجـل أن ينقـذ جـدتي، يفقدهـا، هكـذا؟ بهـذه السـهولة، منـذ وفـاة جـدتي وتحطـم السـفينة، ونجـاتي معـه وهـو مـن يرعـني، لقـد كان يقـص عـلي في كل ليلـة كيـف حاربـا العالـم، وكيـف هزمهمـا المـوت، لـولا أنفي أشـبهها لمـا احتفـظ بي ولا احتفـظ بقـوة تعينـه على اكمـال حياتـه،
لا أحد يعرف عن مصير طاقم السـفينة شـيئا، لقد اسـتفاق والدي ليجد في معلقة بغصن من أغصان شجرة البطوم في ، الغابة الملاصقة للشط، لم يجد شيئا لا حطام للسفينة، لا الربان ولا بقية الهاربين، ولا جثـة أمي التي قضـت يومها ترضعني ، يبـدو لي أنفى امتحنـت مـن قبـل حتـى أن يختـاروا يلى اسـما، بهـدوء تـام، حملني والـدي وهـو ينظـر في وجـهي، ضمـني إلى صـدره، وفكـر كثيـرا في أن يمنحني اسـما، استـرجع كل العثـرات، الطريـق التي قطعهـا لأصـل لهـذه الأرض، أمي ومعسـكر التنظيـم، قـادة الألويـة والخليفـة، جنـاح الجـواري والحـروب التي لا يراهـا إلا خاصـة الخاصـة، أخيـرا، قـرر أن يسـميني “نجـاة”، نعـم لقـد نجـوت، رغـم أنـفى مثقلـة بالخيبـة والجـراح، رغـم الفقـد الـذي سـبق في بالميـاه مـن رحـم أمي التي غادرتني دون أن تلـقي عـلى وجـهي ال بـريء كلمـة وداع واحـدة، رغـم مطـاردات الجنـود واحتـواء أزقـة المـدن، رغـم إرادة الجميـع، فقـد انتهـت رحلـة هـرب والـدي ووالـدتي، لتبـدأ رحلـة نجـاة ،لا تبـدأ الرحـلات مـن رحـم العـدم، لكنهـا تسـتمر مـن تحـت أنقـاض رحـلات قبلهـا، رحـلات يحيطهـا المـوت والـدم والتآمـر مـن كل جانـب ،عـ مـن يريـد النجـاة أن يتغلـب عـلى كل الأبـواب المؤصـدة، وعلى مـا هـو خلفهـا، وإلا مـا كانـت رحـلات، ومـا سـميت نهاياتهـا بالنجـاة ،
***
2014 /8 /3
شـن تنظيـم الدولـة الإسلامية هجومـا موسـعا على قريـة للأزديين ، لقـد كان يومـا مروعـا، كأن الأرض أخرجـت يأجـوج ومأجـوج، وكأنهـم نقبـوا الجـدار أو خرقـوه، صراخ في كل مـكان، ليـس في الدنيـا كلهـا مـكان لاختفـاء، حـين يصبـح البـراح أضيـق مـن خـرم إبـرة صدئـة، وتصيـر الأماكـن عـدوا يشى بـكل مـن يقـف خلفـه، فوهـات البنـادق، أصـوات الانفجـارات، صراخ الرجـال، بـكاء الأولاد، لمعـان بريـق السـكاكين، رقـاب عاريـة تلـت للجبـين ، دمـاء تسـيل في كل مـكان، حـين ترعبـك كلمـة الله أكبـر حـين تحتـاج لهـا لتبعـث فيـك السـكينة، لا شيء أقـذر مـن أن يقتلـك اسـم الله، الـرب الـذي خلقنـا لنعمـر الأرض، يرسـلونك للفنـاء باسـمه..
الرجـال الذيـن قذفتهـم الأرض في وجوهنـا، بلـدي وكأنهـا أعشـاش النسـور، وألبسـة تشـبه كثيـرا أجنحـة الغربـان، كانـوا يركضـون بمجـرد ذبـح كل الرجـال، إلى داخـل البيـوت، يحملـون عـلى ظهورهـم وبين أيدهـم يمسـكون ويجمعـون قـدر الاسـتطاعة بالنسـاء، كمـن يحـاول أن يأخـذ قـدر الإمـكان مـن الذهـب عـلى عجـل قبـل أن تطبـق عليـه المغـارة بداخلهـا.
الكل يريد أن يسوق الأيزيديات كجواري، تخيل أن يسلبك أحدهم حريتـك، فقـط لأنـه أقـوى منـك وقـرر في لحظـة أن يمتلـك مصيـرك فتصبـح عبـدا عنـده أو لـه، نعـم هنـاك الكثيـر مـن الجـواري اسـتطعن أن يغيـرن أمـورا كثيـرة، مصبـح مثـل تلـك الجاريـة البشـكنجية، ربمـا تكـون قـد مـرت بتجربـة كهـذه، لعـل الخيـل أغـارت عليهـم، فقـط لتكـون “صبح” جارية الخليفة وأم الخليفة وحبيبة الملك المنصور، لكن في النهايـة تظـل جاريـة سـلبت حريتهـا رغمـا عـن أنفهـا، نحـن الأيزيديـة لا نعيـش حيـاة كاملـة، ويحـوم الغمـوض حـول معتقدنـا، ونبـدو مجهولـين نوعـا مـا، لكـن معتقدنـا وغموضنـا وانكماشـنا وحتـى انغلاقنـا لا يعـطي أحـد حـق سـبينا وقتلنـا..
إسمي “أمينـة” فتـاة أيزيديـة لهـا مـن العمـر أربعـة عشـر ربيعـا، لدى أب وأخ وعـم، قتلهـم كلهـم تنظيـم الدولـة، حـين اجتـاح إقليـم سـنجار، لأننـا كمـا يقـول عنـاصر التنظيـم مـن الكفـار، الذيـن يجـوز قتـل رجالهـم وسبـي نسـائهم واسـتحياء أطفالهـم، فقـط لأن ديننـا الـذي يخصنـا لا يؤمـن بوجـود الشـيطان وأن طـاووس هـو ملكنـا المرسـل إلينـا، ولكننـا على كل حـال نؤمـن بـأن الله واحـد وهـو مدبـر هـذا الكـون، وأنـه الـرازق والمانـع، لكـن مـن يخبـر هـؤلاء بـأن هـذا لا يبيـح لهـم اجتياحنـا.