الآخر!

الآخر!

زياد مبارگ

        في البدءِ كانت النارُ، والنارُ اشتعلتْ في البارود، فكانت الحربُ. عُمري هو كل ما عشتُه في الحرب، يتراءى في مرآة تخيُّلِي الجزءُ من حياتي، فيما سبق الحرب، كجزءٍ ينتمي لشخصٍ آخر. شخصٌ أعرف القليل عنه، ونسيتُ الكثير منه. ولكن، إنّه هو ذاته؛ أنا. فمنذ اشتعل البارود وظنوني تسوقُني، إلى أنني وُلدت من رحم المعركة، أو من كعبِ البندقيةِ التي أطلقتْ الرصاصةَ الأُولى. وُلدتُ مجدّدًا؛ في أثناء الحرب ووسط الحجارة. تلك الصخور التي لا تُوصف، رفيقة الليالي، التي لا تحرقُ مثل البارود، أو تؤذي مثل البَشر. في البدء كانت الحجارة، ووسطُ الحجارةِ وُلدتُ أنا.

        آخر ما أذكره، ما علِق مثل طُحلبٍ طازجٍ في عينِ الماء، أعني في ذاكرتي، أمّا في الحقيقة فآخر ما أذكره كان الحريق. ففي الساعة الأولى لاشتعال البارود، رأيت تلك الطائرة الحربيّة المنقضّة على منزلي، كانت تتجه إليّ، وكنت أقف عند النافذة، رأيتها تشقّ السماء بصوت هادر في الأفق البعيد، وتقترب، وتقترب، وتقترب. أشارت حاسّتي السادسة لقدميّ، أن اُرْكضا بلا تأنٍّ، فالزئير النفّاث آتٍ نحو منزلي. لا أعرف كيف توقعتُ ذلك. كانت الطائرة تعربدُ في السماء، واللهُ وحده يعلمُ أين ستُفرغ حمولةَ الشظايا واللهيب، وأيَّة بقعةٍ ستلقحها بارتطامٍ فاحشٍ مدوٍّ. ولكن عندما غادرتُ المنزل في ماراثون على صراط النجاة، سمعتُ دويَّ الصاروخ، ورأيت منزلي أنقاضًا في رمشةِ عين، ورأيتني، في آخر ثانيةٍ أذكرها، تعجز ساقاي عن حملي، وينسحبُ الصحو منِّي، وتسلبني المفاجأة من عالم الخراب إلى سديم اللاوعي.

        صحوتُ.

        أين أنا، ومن هؤلاء؟!

        وهل هم جميعًا وُلِدوا مثلي، من بطنِ قذيفة؟!

        كنّا نعمل في النهار ونرتاح في الليل، أمّا لماذا، فلا أحد منّا يدري. الحرّاس الموكلون بخفرنا لا يكلموننا كثيرًا ولا يرحبون بالأسئلة التي تتسرّب من فضولنا، لنعرف على الأقل أين نحن؟ ولماذا؟ وماذا بعد؟ وعندما تبرّع أحدهم بالإجابة، وهي المرّة الوحيدة التي حظينا فيها بإجابة، قال: “لا أدري!”. أتَرَاهُ سجينًا مثلنا؟ إذا كان هو لا يدري فمن يدري! عندها سألته: “هل انتهت الحرب؟”. لم يجبني، ومنذ ذلك اليوم لم أسأل أحدًا منهم، ولم أعد أفكر بالحرب. لأنني عرفت الحجارة، وألفتها، فلا حاجة لي في الرحيل، اكتشفت أنني وُلدت يوم زارتني الطائرة، من بين ألسنة الحريق وركام الحجارة.

        التقطونا من أماكن متعددة، تبعد عن بعضها مئات الأميال، باتساع الحرب. بضع مئات من البائسين، يحكون وأسمع، ثم في طيّ الليل ينفث الصمت كلماتهم في خاطري. التقطونا لنعمل في محجر بصحراء لا نعلم أين تقع، نكسر الصخور منذ الفجر إلى ذوبانِ الشمسِ في المغيب. حين صحوتُ في المحجر سألتُ كثيرًا، السجناءَ والحرّاسَ، “أين أنا؟”، ثم ردّتني الخيبة إلى الحجارة.

        نشأت علاقةٌ ما؛ بيني وبين الحجارة التي تصير عند المغيب أكوامًا كثيرة، كبيرة وعالية، هي حصيلة عمل السجناء ليوم كامل، وحين ننام على الأرض نتوزّع بينها، وتتقاسم الفراغات أجسادنا. ثم تختفي كلّ الصخور، نستيقظ لنجد أنها ليست في المكان. في عدد من المرّات قرّر السجناء عدم النوم لرؤية الذي يأخذ هذه الحجارة التي قصمت ظهورنا، وفي كل مرّة يقولون إن الإرهاق الذي ينتهون إليه في آخر النهار يجعل من المستحيل أن يظلّوا ساهرين حتى الفجر، وإن أمر الحجارة والصخور ليس مهمًا لدرجة أن يجهد المرء نفسه لمعرفة مصيرها.

        قلت: “سوف أسهر“.

        واضجعت على جنبي الأيسر موليًا وجهي ناحية الكوم الأقرب لي، وفي منتصف الليل انزعج أحد جيراني من صرير الحجر الصغير الذي أنحتُ به على الصخرة الكبيرة المواجهة لوجهي. قال: “لماذا تصدر هذا الصوت؟!”. قلت له دون أن التفت ناحيته: “إنني أكتب”. لم يجبني، أظن أنه لم يصدقني لأنه في الليلة التالية عندما قام وتأكد من أنني أكتب؛ ضحك. سألني: “لعلك تكتب رسائل استغاثة؟”، قلت: “لا”، ولأجل هذا ضحك.

        كتبت على الصخور كثيرًا، كنت أنام قليلًا قبل الفجر ولكنني كنت أجد راحتي في الكتابة. كتبت رسالة للبحر، أكملتها في الصخرة الخمسين، في الليلة الخمسين. لم يكن لدي ما أقوله للبحر من قبل، غير أن الصحراء أوجدت الكثير مما يستحق أن أقوله للبحر. وكتبت لأصدقائي عتابي الذي لم أستطع قوله لهم، الكتابة أسهل، كتبت لهم جميعًا. وكتبت لأعدائي، لمدينتي، لحييّ، لجيراني، لحبيبتي الأولى الغادرة، وللذين واللواتي غدرت أنا بهم… هذه الصخور لا يهمّني إلى أين تذهب، الكتابة عليها تريحني، لأفرغ فيها إذن ما يخفّف عنّي، ثم لتذهب إلى نارٍ وقودها الناس والحجارة. كنت أنحت ما يطفو إلى خاطري من أعماق نفسي. إنها الصحراء والصخور ولا شيء آخر. بدا كل ما أعيشه كعلامة كبرى للقيامة. كان السجناء ينامون كالصرعى وكنت أكتب كالمحتضر الذي يكتب آخر وصاياه.

        سألوني: “ماذا تكتب؟“.

        ابتلع الليل إجابتي.

        وغاصت ضحكاتهم في مسارب الفضاء.

        كتبت في ليالٍ كثيرة، ربما ألف ليلةٍ وليلة، هأنذا شهريار الذي يحكي لشهرزاد، للحجارة. يا لصوتها، ينقش الحجر بيدي على سطح الصخرة الأملس، وينتثر منها التراب، أراه، مثل فيضٍ من النور، كلّ ذرة منه هي خليّة حيّة منّي. ثم في الصباح، أصحو، تكون الصخور قد اختفت، ويبقى التراب. لأعود في الليل إلى صخرةٍ أخرى. في البدء كان التراب الذي خُلقت منه الحجارة، ثم تلوّث بصلصال الإنسان.

        إنني الآن أنحت على الصخر.

        أنحت وأنحت بعد أن تفرّقنا أيدي سبأ.

        كل سجين مضى في طريق تاركًا آثاره على الرمال ولمسَّاحَةِ الريح، بعدما أفقتُ على صراخ عالٍ ممتدٍّ بطول الصحراء، رأيتهم يمزقون الحرّاس إربًا إربًا. كان الحرّاس قلّة مدججة بأسلحة الكلاشينكوف. كيف حدث هذا؟! لقد جريت فقط دون أن أسأل، جريت وراء السجناء. تشعّبوا في الأرض الرملية المتشابهة، جريت، وجريت، وحين انتبهت أمامي وجدتني وحدي، أجري في الصحراء كصخرةٍ متدحرجة في وِهادِها. كُتب عليّ التيه فتهتُ، ومشيتُ، وأُرهقتُ، وتعرّقتُ، واسترحتُ، وبكيتُ.

        يومان مضيا وأنا أسير في الصحراء. أتلفّت حولي ولا أرى غير كثبانِ الرَّملِ تحتضنُ الفراغ. ثم حلا للطبيعة أن تثير عاصفةً عاتيّة، لها صفيرٌ صاخب وتحمل المزيد من الرَّمل، جلستُ وعصبتُ عينيّ بقميصي. استمرّت العاصفة دهرًا بخشونةِ الرمال التي تكدّست بيني وبين ثيابي، وحين مرّت الرياح وهدأت الصحراء كأن لم تكن عاصفة هاهنا، بصقتُ كتلةً من الرَّمل.

        — أُفٍ لها!

        فكرت في الصخور، لو وجدتها لكنت كتبت، ما زال هناك الكثير، حرّضني السكون على الكتابة، وددت أن أنحت وأنثر غبار الكتابة في وجه الصحراء. لم تصادفني صخرة، لم أجد أحدًا من السجناء، لا حياة، فقط الصحراء وأنا. تذكرتُ الحرب، نظرتُ للسماء، لا توجد طائرة غاضبة في الأعلى. في البدء كانت السماء الزرقاء نافذةً للطير، ثم لطّختها الطائرات.

        — ما ذاك الذي هناك؟!

        بدا السور العالي الذي أمامي كأنه اندلع من الأرض، أو هبط من السماء. ظهر فجأة من شقِّ الفراغ، على بُعدِ مائة خطوة. أنا متأكد إنه بهذا القرب، مائة خطوة. فقد كنتُ في التيه أعدُّ خطواتي، تهتُ لآلاف الخطوات، وقستُ الزمن بالخُطى. ألف وخمسمائة خطوةٍ بين تعامد الظل والمغيب، ومثلها من الشروق إلى الظهر. بعد كم خطوة ستنتهي الحرب؟ لاح التساؤل في ذهني وغربَ في أقلِّ من خطوة. ولمّا رأيت السور؛ علمت أنه على بُعدِ مائة خطوة، ولم يكن هناك حين كنت أمشي وأجول ببصري حولي هنا وهناك!

        — من يبني بناءً في هذه الأرض القاحلة؟!

        مشيت نحوه، كلما أنظر خلفي أرى آثار أقدامي ورائي تمتدّ مثل سلسال يضمنّي لزمرة التائهين عبر كل العصور. في السور باب كبير، إنه الأكبر، لم أر بابًا مثله أبدًا، إنّه يكاد يلامس السماء. الباب والسور لا يبدوان متناسقين، السور عالٍ ولكنه أقصر من الباب، أقصر بكثير، لا مقارنة. لم أحتجْ لدفعه فقد كان مفتوحًا. دخلتُ، لا بناء داخل السور، فقط السور الكبير، ومساحة واسعة جدّاً، وصخور، الكثير منها. جريتُ، حملتُ صخرةً واحتضنتها، التقطتُ حجرًا صغيرًا، وهرعتُ إلى جانب الحائط لأستظلّ وأكتب. جلستُ وبدأت الكتابة، أنحتُ ما يدور بخلدي، وزّعتُ لعناتي الأبديّة والدائمة على المغضوب عليهم، العواصف والصحاري والحرّ، وكما العادة؛ الحرب والصواريخ. وظللتُ أكتبُ لألف ليلةٍ وليلة. وكما ظهر السور فجأة؛ سمعت الصوتُ فجأة. إنه الصوتُ ذاته الذي يطاردُني، ويندسُّ في رأسي منذ سمعته، صوت الطائرة.

        نهضت مذعورًا، لا طائرة في السماء، فقط صوتها، الزئير النفّاث والغضب الساطع في السماء، ولكن؛ لا طائرة في الأرجاء. سمعت صوت الصاروخ ذاته، ولا صاروخ، سمعتُ دوّيه المرعب، ولا انفجار، صممتُ أذنيّ بإصبعيّ وسقطت على الأرض. ابتعدت الطائرة وهدأت السماء، ومُقعًا من مكاني نظرت إلى الباب، كان الانفجار الرهيب صوت الباب وهو يُغلق، بقوةٍ وعنف.  لا احتاجه للخروج، ولكن:

        — بحق السماء! ما الذي أغلق الباب؟!

        حاولت أن اتسلق السور، ليس صعبًا أن أخرج رغم علو السور، فنتوءات حجارته تصلح كسلّم للتسلّق إلى الخارج. وبينما كنت اتسلّق التقطت عيناي رسالتي على الحجر. إنها هي ذاتها! التي كتبتها في المحجر، لم أكن صعدت كثيرًا فنزلت وأنا أتفحّص حجارة السور، إنَّ هذه الحجارة لحجارتي! كلها لي، إنها كلماتي، كلها! درتُ حول السور، من الداخل، إنّها هي. ودرتُ بالخارج، هي هي ذاتها، قرأتها عشرات المرات، كلها لي حجرًا حجرًا.

        والآن لقد اقتربتُ.

        كان الجهدُ شاقّاً، ولكنني اقتربتُ.

        حين عرفت أن حجارة السُّور حجارتي – وكنت قبل ذلك أسندُ ظهري على السُّور دون شخوص إليها – وحين عرفتُ أنه سورُي واصلتُ البناء، بالحجارة التي نحتّها، والتي أنحتها، والتي سأنحتها، لا بدّ أن أكمل البناء وأُساوي السور بالباب. لقد اقتربتُ. كان الجهدُ شاقّاً، ولكنني اقتربتُ. كتبتُ كل شيء، وبدأت أُكرّر ما قد كتبته لأكمل البناء. كانت الصخور تختفي في المحجر، وهاهنا فهي تتجدّد داخل السُّور، كلما أنحت الحجر وأضعه موضعه في البناء، أجد غيره عندما استيقظ، في المساحة الشاسعة، والمكان ذاته.

        وأخيرًا حانت اللحظة، لقد تبقى الحجر الأخير ليكتمل السور، نحتُّ عليه ما تساءلت عنه كثيرًا وعلّقته بحبل أفكاري بلا مشابك الإجابات. لم تدهشني الحرب، ولا الرصاصة الأُولى، ولا المحجر، ولا اختفاء الحجارة، ولا إطلالها من العدم، ولا الطائرة، ولا الباب الذي أُغلِق عليّ، غير أنني نحتُّ على الحجر الأخير، بملء الحيرة:

        — “لماذا أوصد الآخر مزلاج الباب؟!”.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :