‘الإعلامي في الجنوب الليبي: بين الشغف بالمهنة وغياب الحماية”

‘الإعلامي في الجنوب الليبي: بين الشغف بالمهنة وغياب الحماية”

  • سلمى مسعود

أن تكون صحفيًا في الجنوب الليبي، فهذا يعني أنك تمارس مهنة ليست كغيرها، مهنة تحفّها المخاطر والتحديات، لكنها في الوقت ذاته تمنحك ذلك الشعور العميق بالمسؤولية تجاه الحقيقة. الصحفي ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو عين المجتمع ولسانه، وهو الحارس الذي يقف بين الناس والمجهول، بين الحقيقة والتضليل، بين الحقوق واللامبالاة.

 لكنه في الجنوب الليبي، لا يملك سوى قلمه وكاميرته وروحه المعلقة بين الخوف والأمل، بين الواجب والرغبة في البقاء.

في الدول المستقرة، يُنظر إلى الصحفي على أنه السلطة الرابعة، يُمنح المساحة لنقل الحقيقة، يُحترم لجرأته، ويجد بيئة تشجع عمله وتوفر له الحماية. أما في الجنوب الليبي، فالوضع مختلف تمامًا. الصحفي هناك يُنظر إليه أحيانًا كتهديد، كعدو غير مرغوب فيه، ليس لخطأ ارتكبه، بل لأنه ببساطة يجرؤ على طرح الأسئلة التي يفضل البعض ألا تُطرح.

ليس لأنه ينحاز لطرف ضد آخر، بل لأنه يسلط الضوء على واقع يفضل الكثيرون تركه في الظل.

في هذا الواقع، قد يكون الصحفي مستهدفًا لا لشيء إلا لأنه أراد أن ينقل معاناة الناس، أن يكتب عن أزمات المياه والكهرباء، عن المدارس التي بلا مقاعد، عن المستشفيات التي تفتقر إلى أبسط مقومات الرعاية الصحية، عن البطالة التي تخنق الشباب، عن الفقر الذي ينهش الحياة ببطء.

الصحفي في الجنوب لا يواجه فقط التحديات المهنية، بل يعيش عزلة اجتماعية أيضًا. كثيرون لا يفهمون لماذا يخاطر الصحفي بحياته في سبيل “خبر” قد يمر مرور الكرام عند العامة. لماذا يبقى مستيقظًا في منتصف الليل ليكتب قصة لن يصفق لها أحد؟ لماذا يصرّ على مواجهة المخاطر بينما يمكنه الصمت والنجاة؟ السبب ببساطة أن الصحفي الحقيقي لا يبحث عن الأمان بقدر ما يبحث عن المعنى، عن أن يكون صوته هو الصوت الذي لم يسمعه أحد، عن أن يكون الكلمة التي تقف في وجه الصمت.

لكن وسط هذا التحدي، يظل السؤال الأكبر: من يحمي الصحفي؟

في طرابلس وبنغازي، توجد نقابة للصحفيين تحاول – ولو بجهد محدود – الدفاع عن العاملين في المجال الإعلامي. أما في الجنوب، فلا يوجد أي كيان نقابي أو قانوني يحمي الصحفيين، لا يوجد من يساندهم حين يتعرضون للضغوط أو التهديدات، لا جهة تدافع عنهم إذا ما تمت ملاحقتهم بسبب تحقيق كشف عن فساد أو تقرير تحدث عن إهمال ما. الصحفيون في الجنوب يعملون بمفردهم، يتحملون مسؤولية عملهم دون أي حماية قانونية أو دعم مؤسسي، مما يجعلهم عرضة لكافة أشكال الاستهداف، من المضايقات إلى التهديدات المباشرة.

هذا الغياب لا يعني عدم وجود محاولات لإنشاء نقابة تحمي الإعلاميين في الجنوب. على العكس، فقد بذل العديد من الصحفيين جهودًا حثيثة لتأسيس كيان نقابي، ليكون صوتهم الموحد، درعهم الذي يحميهم من أن يتحولوا إلى مجرد أهداف سهلة لكل من يريد إسكات الحقيقة. عقدوا اجتماعات، صاغوا مقترحات، تواصلوا مع الجهات المعنية، لكن المحاولات غالبًا ما تتوقف عند العقبات البيروقراطية، أو تواجه رفضًا ضمنيًا من بعض الجهات التي ترى في وجود نقابة للإعلاميين خطرًا عليها.

إضافة إلى غياب النقابة، هناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة، وهي نقص الدعم والتمويل. الصحف المحلية تكافح من أجل البقاء، وخير دليل على ذلك صحيفة فسانيا التي تعرضت للنهب والتخريب اكثر من مرة ، والمحطات الإذاعية تعمل بميزانيات محدودة، والمراسلون الصحفيون غالبًا ما يعملون بأجور زهيدة، إن وجدت.

في ظل هذه الظروف، يصبح من الصعب إنتاج محتوى إعلامي مستقل، ويضطر كثير من الإعلاميين إلى مغادرة المهنة بحثًا عن عمل يضمن لهم حياة كريمة، بينما يبقى القليلون متمسكين بالحلم، رغم كل ما يواجهونه من صعوبات.

ولأن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل مسؤولية، فإن دعم الإعلام في الجنوب لا ينبغي أن يكون خيارًا، بل ضرورة. يجب أن يكون هناك كيان نقابي معترف به يدافع عن الصحفيين، يجب أن تتوفر مصادر تمويل تضمن استمرارية العمل الإعلامي، يجب أن يتم تدريب الإعلاميين وتأهيلهم ليكونوا قادرين على أداء دورهم بمهنية عالية. الصحفيون في الجنوب ليسوا أقل كفاءة من زملائهم في الغرب والشرق، لكنهم بحاجة إلى بيئة تسمح لهم بالعمل بحرية، دون خوف من القمع أو التجاهل أو التهديد.

المجتمع أيضًا له دور في دعم الصحفيين. كثيرون يعتقدون أن الإعلامي هو شخص يبحث عن الشهرة أو يعمل لمصلحة جهة معينة، لكن الحقيقة أن معظم الصحفيين في الجنوب يعملون بدافع المسؤولية تجاه مجتمعهم. إنهم أبناء هذه الأرض، يعرفون معاناة الناس، يعيشون ذات الأزمات، ولهذا ينقلونها بصدق وإخلاص. دعمهم لا يكون فقط من خلال توفير الحماية القانونية، بل أيضًا من خلال احترام دورهم، ومنحهم المساحة لنقل الحقيقة دون خوف أو تردد.

وفي النهاية، رغم كل الصعوبات، يظل الإعلاميون في الجنوب مستمرين في عملهم. يكتبون، يوثقون، يتحدثون، يبحثون عن الحقيقة حتى وإن كانت مؤلمة، لأنهم يعرفون أن الصحافة ليست مجرد وظيفة، بل هي واجب ورسالة، وهي الطريق الوحيد لبناء مجتمع واعٍ يعرف حقوقه ويدافع عنها. قد لا يكون الصحفي في الجنوب محميًا اليوم، لكن بصوته، بكلمته، بقلمه، يظل يحارب من أجل مستقبل يكون فيه الإعلام حُرًا، والمجتمع واعيًا، والحقيقة أقوى من كل محاولات التعتيم.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :