الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَعَالِمَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَجَعَلَ لَهُمْ {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ }النساء165،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيـكَ لَهُ، القائل سبحانه:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }الفتح28.
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، القائل فيما ورد عنه:( مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ)رواه البخاري.
اللَّهُمَّ صّلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ، وَدَعَا بِدَعْوَتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
. أَمَّا بَعْدُ: فَـأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوى اللهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الحديد28.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَمُرُّ عَلَى الْعَالَمِ الْمُسْـلِمِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، ذِكْرَى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ، نَبِيُّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّهَا لَذِكْرَى عَظِيمَةٌ، فَلَقَدْ أَحْيَا اللهُ بِهَذَا الْوَلِيدِ الْمُبَارَكِ، الْبَشَرِيَّةَ بَعْدَ امْـتِهَانِهَا، وَانْتَشَلَ بِهِ الإِنْسَانِيَّةَ مِنَ انْحِطَاطِهَا، وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالإِنْسَانُ يَصْرَعُهُ ظُلْمُ الإِنْسَانِ، يَعْتدي الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ مُتَسَلِّطًا، وَيَعْلُو الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ مُسْـتَعْبِدًا، فُقِدَتِ الإِنْسَانِيَّةُ فِي نُفُوسِ أَبْـنَائِهَا، وَهُدِمَتْ مَنْظُومَةُ الأَخْلاقِ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَأَرَادَ اللهُ بِالإِنْسانِيَّةِ رَحْمَةً بِمَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107.
يَقُولُ سُبْحَانَهُ مُبَيِّنًا مِنَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }آل عمران164.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مَوْلِدَ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيَحْوِي دُرُوسًا جَلِيلَةً، حُقَّ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَمُجْـتَمَعًا أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْهَا دَرْسًا فِي الأَمَلِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ، فَظَلامُ الْجَهْـلِ وَالْجَهالَةِ، وَالانْحِلالِ وَالضَّلالَةِ؛ مَهْمَا اشْتَدَّ فَفَجْرٌ مِنَ اللهِ آتٍ، وَمَهْما ضاقَتْ بِالأُمَّةِ الْكُرُوبُ وَتَضَافَرَتْ عَلَيْهَا الْمَصَائِبَ؛ فَالْفَتْحُ مِنْهَا قَرِيبٌ، وَلَهَا مِنَ النَّصْرِ نَصِيبٌ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَى الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ تُعْطِينَا دَرْسًا فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، وَرُسُوخِ الْمَبْدَأِ؛ فَهِيَ تُذَكِّرُنَا بِسَيْرِ دَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَمَا بَدَأَ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَحِيدًا، يَوْمَ أَنْ بَعَثَهُ اللهُ فِي مُجْـتَمَعٍ، تَمُوجُ فِيهِ الْفِتَنُ وتكثرُ فيهِ الصراعات، وتُعبد فيه الأصنامُ من دون الله، فَكَانَ ثَابِتًا عَلَى مَبَادِئِ الدِّينِ، صَادِحًا بِالْحَقِّ رَغْمَ إِغْرَاءِ الْجَاهِلِينَ، شَامِخًا رَغْمَ تَهْدِيدِ الْمُجْرِمِينَ، لَقَدْ خَرَجَ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ خَائِبَ الرَّجَاءِ، بَعْدَ أَنْ جَاءَهُ مُتَحَدِّثًا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، عَارِضًا عَلَيهِ الدُّنْيَا، وَوَاضِعًا عِنْدَ قَدَمَيْهِ الْمُغْرِيَاتِ، عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الدَّعْوَةَ، فَلَمَّا رَأَى مِنْ ثَبَاتِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ، وَسَمِعَ مِنْ وَحْيِ الْكِتَابِ، أَدْرَكَ فَشَلَ مُهِمَّـتِهِ، وَعَلِمَ الْحَقَّ لَكِنَّهُ جَحَدَهُ،
قَالَ تَعَالَى: مُوَجِّهًا رَسُولَهُ الْكَرِيمَ إِلَى الثَّبَاتِ لِعِظَمِ الأَمَانَةِ، مَعَ قُوَّةِ الْمُعَارَضَةِ، وَشِدَّةِ الْمُعَانَاةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}الكافرون1،6.
أَيُّهَا الْمُسْـلِمُونَ: نَتَعَلَّمُ مِنْ ذِكْرَى مَوْلِدِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَرْسًا عَظِيمًا، وَهُوَ أَنَّ الإِيمَانَ أَهَمُّ سَبَبٍ لِلنَّصْرِ وَالتَّمْـكِينِ، لَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِيقَتِهِ، مَوْلِدًا لأُمَّةٍ جَدِيدَةٍ، أُمَّةٍ خَرَجَتْ مِنَ الْعَدَمِ، فَحَازَتِ الْخَيْرِيَّةَ بَيْنَ الأُمَمِ، إِنَّ النَّاظِرَ إِلَى حَالِ الْعَرَبِ قَبْـلَ وِلاَدَةِ أُمَّةِ الإِسْلامِ فِيهِمْ، لَيَرَى أَنَّ بِنَاءَ حَضَارَةٍ بِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيَالِ، فَأَرْضُهُمْ كَانَتْ قَاحِلَةٌ، وَقَبَائِلُهُمْ مُتَنَاحِرَةٌ، وَصِلاتُهُمْ مُمَزَّقَةٌ، وَضَلالاتُهُمْ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ بَزَغَ فِيهِمْ نُورُ الإِيمَانِ، وَارْتَفَعَتْ فِيهِمْ رَايَةُ التَّوْحِيدِ، كَوَّنُوا فِي سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ دَولَةً رَاسِخَةَ الأَرْكَانِ، وَبَنَوْا بَعْدَ ذَلِكَ حَضَارَةً مَتِينَةَ الْبُنْيَانِ، إِنَّهُ الإِيمَانُ الصَّادِقُ، الإِيمَانُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادِهِ …