سالم أبوظهير
القرية بالمعنى المتعارف عليه أصبحت (تقريبا)، مجرد مكان يصعب تخيله بدقة كافية ،مكان فقدناه يحمل زمان مضي وأنتهى واختفى ، وتحول لحلم يراودنا في منامنا وصحونا.
هذه القرية التي اختفت ، كانت موجودة بشكل فعلي، لكنها لم تصمد بشكل كاف ، أمام رياح التغيير العاتية وماحملته من تيارات الإنفتاح الوافد بمغريات الإستهلاك ،فخرج منه أهله ومتساكنيه ، حين تركوها ليسكنوا المدينة.
أختفت القرية حين انسلخ القرويون عن قرويتهم ، ( وماعاد في الإمكان ) ، مقابلة أهلها البسطاء الذين تغلب الطيبة على سحناتهم ووجوههم ، فقد انقطعت الصلة تماما بين القرويين وقريتهم ، وصار الحنين للقرية الضائعة بكل تفاصيلها ، يعادل تماما الحنين لأيام الطفولة . ليتحول هذا الحنين الحزين لخسارة موجعة سببها اختفاء ملامح القرية الجميلة عندنا. فأختفى حاضر القرية ، ونست ماضيها القريب ، وتملكها وسيطر عليها الخوف من مستقبل مجهول قادم.
والمشكلة الحقيقية ليست في تحول القرية وأصحاب القرية للمدينة ، لكنها في الواقع مايمثله هذا التحول عند البعض منهم متمثلاً بانسلاخه من قرويته وماتحمله من قيم نبيلة ومعان سامية. فكانت الخسارة كبيرة بإختفاءها ، وبتغيروجهها النبيل لمسخ بالقوة القاهرة، وبدأت الخسارة مع بداية زحف بريق التمدن وماحمله اليها ، فلا تمكنت من ان تتحول لمدينة حقيقية ، ولا استطاعت ان تبقى قرية وادعة هادئة كما كانت .فخسر القرويون الحقيقيون وخاصة كبارالسن منهم قريتهم ، وماعندهم الان، الا الحنين لتلك الأجواء ومافيها من هدوءه وصفاء وراحة بال.
كانت القرية لمن لايعرفها من أبناء هذا الجيل المتمدن ، رغم نذرة بعض الخدمات الأساسية فيها (في بعض الاحيان) مقارنة بالمدينة ، المكان الأمثل الصحي للعيش في هدوء وراحة، وقناعة واطمئنان، مكان يعرف كل الموجودين فيه بعضهم بعضاً ، مكان تعيش فيه ببساطة متناهية لاتكلف فيها.
فقدنا قريتنا بكل أسف ، وفقدنا معها نعناعها وزهورها وأعشابها البرية ، فقدنا خبز القرية المخبوز في البيت ، ونسينا رأئحة تينها وطعم تفاحها وخوخها وزيت زيتونها وليمونها ، خسرنا خيلها وحميرها وقمحها وشعيرها ، خسرنا عسلها وبصلها ، وماؤها وحليبها ، وخسارتنا كبيرة في جمالها وجلالها وبهاءها وصفاءها ونقاءها ، وروعة اشراقة صباحها، وجمال عتمة ليلها ،وسطوع قمرها ، وبريق نجومها ، ورائحة ترابها، وفواح هوائها ، وشدة زرقة سمائها.
فقدنا سماع صياح الديكة فيها ، وفقدنا تغريد طيورها وثغاء خرافها وحتى نباح كلابها . فقدنا لوحة جميلة من رسمنا ، لكن كنا لانشعر بقيمتها الا بعد أن فقدناها ، ولم نلمس تناسقها وانسجامها ألا بعد أن خسرناها، والأدهى والمحزن والأمر، أننا هربنا منها رغماً عنها أو برضاها، لمدنية زائفة لالون ولاطعم ولارائحة فيها ألا رائحة ال…