المحكمة الدستورية العليا في ليبيا: صراع مؤسسات أم اختبار وعي دولة؟

المحكمة الدستورية العليا في ليبيا: صراع مؤسسات أم اختبار وعي دولة؟

  • عادل الصابر بوعجيلة – مستشار سياسي بوزارة الخارجية والتعاون الدولي

مقدمة
منذ أكثر من عقد، وليبيا تعيش حالة من التوتر المؤسسي الذي لم يهدأ بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. تتعدد القوانين وتتناقص الثقة، وتتجدد الصراعات مع كل محاولة لإعادة بناء الدولة على أسس الحوكمة والديمقراطية. وفي خضم هذه المعادلة المرهقة، عاد الجدل بقوة حول قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا، الذي تحوّل من خطوة إصلاحية منتظرة إلى محور انقسام جديد بين مؤسسات الدولة.

بين النص والواقع الإدارة
يقول رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إن المجلس هو المختص بتنظيم القضاء، وإن هذه الصلاحية لا تمس استقلالية السلطة القضائية. بينما يرى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي أن هذا التوجه يهدد مبدأ الفصل بين السلطات ويقوّض التوازن الدستوري.
لكن القضية في جوهرها ليست “من يملك سلطة التنظيم؟”، بل “كيف تُدار السلطة كي لا تبتلع نفسها؟”.
فمن منظور الإدارة العامة، لا يُقاس العدل بالنصوص وحدها، بل بطريقة إدارة النص. فالتنظيم لا يعني السيطرة، والاستقلال لا يكون حقيقيًا إلا إذا امتلكت المؤسسة القدرة على إدارة شؤونها دون وصاية سياسية أو مالية.

شرعية الإجراء قبل شرعية القرار
في الدول الحديثة، القانون لا يكتسب شرعيته من الصياغة فقط، بل من الطريقة التي وُضع بها.
وحين يُتخذ قرار مصيري دون حوار مع المحكمة العليا أو المجلس الأعلى للقضاء أو الهيئات الحقوقية، يصبح قانونًا منقوص الشرعية الإجرائية.
ذلك أن الشرعية القانونية تمنح القوة، لكن الشرعية الإجرائية تمنح الثقة، وهي رأس مال أي مؤسسة تسعى إلى الديمومة والقبول العام.

التجارب المقارنة: العدالة قبل الهيكل
في تجارب الانتقال الديمقراطي، مثل إسبانيا بعد فرانكو وتونس بعد 2011، لم يكن إنشاء المحكمة الدستورية مجرد إجراء قانوني، بل نتيجة لحوار وطني موسّع.
المحكمة هناك لم تُولد من رحم الصراع، بل من رحم التوافق. لأن الدولة التي تبني مؤسساتها على التوازن لا تخشى استقلال القضاء، بل تعتبره درعها الأخلاقي والسياسي في آن واحد.

إدارة الصراع لا تأجيجه
الخلاف بين مجلس النواب والمجلس الرئاسي حول المحكمة الدستورية لا يجب أن يُدار بمنطق الغلبة، بل بمنطق التنسيق المؤسسي.
فالإدارة العامة الحديثة ترى في الصراع المؤسسي ظاهرة طبيعية، لكن الخطورة تبدأ حين تُفقد القدرة على إدارته بذكاء وهدوء.
الدولة التي لا تدير صراعاتها تتحول صراعاتها إلى طريقتها في الحكم.
نحو حوكمة قضائية رشيدة
يمكن أن يُعاد التوازن إلى المشهد القضائي عبر إنشاء مجلس أعلى للحوكمة القضائية، يضم ممثلين عن المحكمة العليا، والمحكمة الدستورية، ووزارة العدل، ومجلس النواب بصفة رقابية لا تنفيذية.
هدف هذا المجلس أن:

ينسّق السياسات القضائية.

يضمن الشفافية والمساءلة.

يحافظ على استقلال القضاء المالي والإداري.
إنها ليست إعادة توزيع للسلطة، بل إعادة ترتيب للعقل المؤسسي للدولة.

خاتمة
الجدل حول المحكمة الدستورية العليا في ليبيا ليس مسألة قانونية بحتة، بل اختبار وعيٍ سياسي وإداري.
فالدولة لا تُبنى بزيادة عدد مؤسساتها، بل بزيادة وعيها بوظيفتها.
القانون هو روح الدولة، لكن الإدارة الرشيدة هي ضميرها الحي.
وما لم تتصالح مؤسسات ليبيا مع فكرة التوازن لا الغلبة، ستظل العدالة في بلادنا مشروعًا مؤجلًا ينتظر من يُحسن إدارته قبل أن يُشرّعه.

عن الكاتب:
عادل الصابر بوعجيلة – مستشار سياسي بوزارة الخارجية والتعاون الدولي، وباحث في قضايا الإدارة العامة والحوكمة في ليبيا.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :