محمود السالمي
الاغنية كما وسبق واتفقنا فى اساسها تعود الى الشعر الشعبي ، والغناء هو اداء الشعر بصوت ملحون ، وقد يؤكد البعض ممن يعجبه الفصل والتدقيق ان للشعر اسلوبه وطريقته واسلوبه فى الكتابة ، وللاغنية اسلوبها وطريقتها وقنواتها ، وهذا لا يختلف عليه عاقلان ، بعد ان تم تأسيس المدارس الادبية والفنية فى الشعر الشعبي او الاغنية ، وقديما لم تكن الاغنية على حالها الان ، بل كان الشعر يقال شعرا ثم يصير اغنية اذا لائم الحال والمقال ، ووجد من يؤديه ، فمثلا غناوة العلم فى شرق الجماهيرية ، تقال كنوع من انواع الشعر ثم تصير ملحونة مغناة ، والنخيخة فى الجفرة وسائر الاغاني تقال شعرا او كلمات ثم تغنى ، وينطبق الحال على سائر الاغاني المرزكاوية القادمة من مرزق ومناطق الجنوب عموما ، ومنت قد تطرقت فى غير هذا المقام الى المرأة التى قالت الشعر وتحول لاحقا الى اغنية ، ووجدت انه بضهور الاذاعة المسموعة عام 1960 من القرن الماضي ظهرت معها اصوات شعرية نسائية ردت على الكثير من الشعراء وتفوقت عليهم ، ولعل من ابرز النماذج النسائية التى كتبت الاغنية الشاعرة حليمة اشريف ، والتى بلغت علوا ادبيا وشعريا يضاهي بلاغة القول وقوة الشخصية الشعراء الرجال ، فكانت من نسائنا الشواعر المميزات اللواتى فرضن مكانتهن فى المجتمع وتركن اثرا طيبا من التراث العامى او الشعبي الرائع ، وتميزت قصائدها العاطفية بأنشادها على لسان رجل ، وقد ابدعت وتألقت فكانت مميزة وفريدة ، واغلبية شعرها وقصائدها كانت وطنية ، واشتهرت بشعر الدين والحكمة ، وقد صدر لها ديوان عام 1977 بعنوان ( عطشان وردى ) وتوفيت رحمها الله عام 2004 ، اذ قالت فى الحكمة :
راغبيين فى الدنيا اللى مفنية * وناسيين ما قايل الله ونبيه
تذكر كلام المولى ** اللى عز من قايل وصدق قوله
يا سعد من فيها صدق مفعوله ** دنيا على ساس الغرر مبنية
وآمر على طاعة الله ورسوله ** حسناتك ايزيدن وسيتك بالسية
اشتهرت الشاعرة حليمة اشريف بردودها على كثيرا من الشعراء ، والمثال على ذلك ردها على الشاعر مفتاح الفاخري ، فى قوله :
عطينى سلف عينك ونبكى بيها * عندي عين جف الدمع من مآقيها
فكان ردها :
عيني جفت ** دوم سايلة لا قوننت لا كفت
ولا عمر بقدوم الغوالى رفت ** تشارف اتشييع فوق وتواطيها
مليانة عصر ما عمر قالوا خقت ** ولاهي النشادة على ناسيها
مشت فوق جمر النار لين تحفت ** وبكت لين م الدمعة نشف ماقيها
ولها ايضا فى الجانب العاطفي :
هايم وسارح فى جمال عيونك * وناسي اللى يكفاك واللى دونك
عيون عوادي ** مطوحاتني ما بين جاى وغادي
وهن منيتى وهنا حدود مرادي ** ذريت لكن مو مقابل عونى
وكما اثرت المرأة فى الاغنية بشعرها ، فقد سجلت لنا الملاحظات ان الاغنية الليبية كانت فى جل ما قدمته تخاطب المرأة وتنشد سمو العلاقة بها ، وتؤيد جانب المحافظة على العادات والتقاليد .. وخطاب الاغنية الليبية للمرأة لا يخرج عن المضمون الانساني العام الذى يأنف من التدني والهبوط الى مستوى الغرائز او مخاطبة ما لا يستسيغه المجتمع من معاني ، فالشاعر الذى كتب اغنية ( مشيتى وين ما وصللك خبرنا ) مثلا يعطى مثالا صادقا على ما قلناه وغيره كثير ممن اجاد فى التجلى والتعلى عن كل ما قد يخدش احترام المجتمع او العادات او التقاليد ، وليس هناك حين مخاطبة المرأة والبحث عن قيم تسمو بالانسان اجمل من قوله :
مشيتى وين ما وصلك خبرنا * وعالغيات يا زينة صبرنا
وين دارو مكانك ** بينسوك فى غوالى زمانك
كنتى دوم متزايد حنانك ** واحنا بيك دوبنا سهرنا
هكى الناس رادت ** تطفى شموع بنور الحب قادت
والايام الحلوة ما انعادت ** ونوم العين فى بعدك هجرنا
شغلنا العقل بيك ** فى كل مكان دورنا عليك
غير شكون ايقل سلام ليك ** ايجيب الود منك ياقمرنا
كما ترقى الاغنية الليبية حين الوصف الى جماليات المعنى التام للكلمة الى درجة انها تأخذ جزء من المرأة لتكنى به وتضيف جديدا ، فليس غريبا ان تسمع عبارة او كلمة ام العيون السود ،، ام الضفاير ،، ام الخجل ،، مولاة الغثيث ، وكلها تعنى المرأة وهى عدة مسميات لشىء واحد هو المرأة ، ولكن انظر الى ما اضفته هذه الكنى من معانى جمالية تبرز قدرة الاغنية على تقديم الصورة اللائقة للمرأة ، وقد لا نكون مبالغيين حين نقول ان الاغنية التى تقول :
ام الضفاير وين خليتوها * كانت معاكم ريتها عالبير ** وعلاش روحتوا وخليتوها
ام الضفاير بانت ** وتملا فى جرتها حذاكم كانت
انا ريتها والعين ليها مالت ** وخوفى عليها فيوم لا تنادوها
تحتفظ هذه الاغنية بصورة الواحة بما فيها من مسارات جميلة ولقاءات على مصادر المياه ، ومنظر الفتيات اللواتى يذهبن كل مساء الى بئر معروف فى مسار منتظم وفى ساعات محددة لملىء الجرار بالماء ، وهى صورة تنقلها لنا الان المسلسلات المرئية ، هذا هى الاغنية وروعتها حين تتجلى .
دمتم سالمين