بقلم :: كونية المحمودي
بقلم :: كونية المحمودي
عند عودتي من طرابلس إلى باريس حملت معي – في حقيبة صغيرة – عسل السدر الحر من جبل الزنتان الأشم، بمذاقه الفريد الذي يلسع اللسان من شدة نقائه، والبكلاوة الطرابلسية التي أعشقها، وبعض من الزعتر البري وإكليل الجبل، من بر بني وليد وترهونة، وحنة الورق الطرابلسية الأصيلة المزروعة في سواني تاجوراء والقره بوللي، والتي أعددتها بنفسي، وبعض من بخور السليمانيات في سبها، المصنوع من الصندل، والعود، والعنبر، ودهن الورد، والمسك، والخلطة، وزيوت الجنوب العطرية الفواحة، وأشياء أخرى لاأعرفها، كما حملت الخمرة “بضم الخاء” السبهاوية السائلة الفواحة.
استقبلني زوجي في مطار “أورلي” حاملا معه باقة ورد جميلة كعادته دائما كلما سافرت ورجعت ، ونحن في السيارة شكرته وأخذت الباقة بين يدي، كانت جميلة ومنمقة وتأخذ البصر كأي باقة باريسية، ولكن لاعطر فيها ولاشذى، قلت لنفسي: العطر في روابينا، والزهروالحنة في سوانينا، والأعشاب تستمد طيبها عندنا من نقاء الصحراء، وطيب الهواء في جبالنا الشامخة الوادعة تحت ضوء القمر.
خزائن جداتنا تحفل بالمسك والعنبر والوشق، وشعورهن تخلو من الأصباغ، ولاتعرف غير الحنة وزيت اللوز والقرنفل والمحلب، وللأمهات في أكمامهن نصيب من شذى البخور يتعشقن به كل صباح، ويمنحنه عطرا للمكان والزمان، ولاتخلو أدراج مطابخهن من ماء الورد للحلويات، وماء الزهر والحبهان للقهوة، والعطرشان والقرنفل للشاي .
كانت أمي ولازالت تعشق الزعتر البري، فنادرا ماتخلو منه مائدتنا، ومنها تعلمت أن أحب إكليل الجبل، والنعناع العربي، والحبق الذي قلما ماتخلو منه أطباقي، كم تأسرني النكهات الشرقية في الأكل!! وفي الإجازات الطويلة تسبقني حقيبة البهارات والأعشاب الصغيرة التي تزعج زوجي ويمتعض منها كثيرا، ثم يحملها وأمره لله لأنه يعرف أنني لن أسافر بدونها.
وقد صارت الأسواق العربية في أوروبا في السنوات الأخيرة، تغنينا عن حمل هذه الأعشاب العطرية، فالمدن الأوروبية الكبيرة كباريس ولندن أصبحت بازارا لكل الثقافات، الإيرانية، والهندية، واﻵسيوية، والعربية وخصوصا المغاربية، وسوقا لأكلاتها ونكهاتها وقهوتها، إلا أن بعض العطور والنكهات الليبية غير المتوفرة في أي مكان في العالم، تحمل إلي في روائحها كل يوم روح الوطن، وتذكرني بصباحاته المضمخة بالعطر والبخور، خصوصا بعض الأشياء التي تصنعها الأمهات والجدات عندنا.
قد تكون فرنسا بلد العطور الغالية الأنيقة الزجاجات، لكنها عطور مركبة ومصطنعه ومضافة، تتكرر وتتعدد تحت مسميات كثيرة، وتختلف فقط في شكل الزجاجة وحجمها، وتدخل فيها الكيمياء في أغلب الأحيان، وهي أبدا لن تكون كعطورنا البرية، طبيعية، ونقية، وآسرة.
عطور وطني تسافر بي على بساط الشوق والحنين إلى زمن البساطة والنقاء والسلام، بعد أن أصبحت أرضنا مسرحا للرعب، وامتلأ فضاؤنا بدخان القنابل والقواذف والمتفجرات، واختلط ترابنا النقي بالنفايات والقمامة ، وامتزج بحرنا الوادع بالدماء، وغص بالنفايات البشرية والنووية والقمامة.