عبد الرسول الحاسي
للشعر و الشعراء منابع يستسقى منها الصور الشعرية ولأن قضية التناقض في الشعر لا تزال مثارة ، وتعد مغمزاً في القصيدة على امتدادها وليس في البيت الواحد ، كما جاء في الخبر . بل قد يعد التناقض نقصاً إذا حدث بين قصيدتين للشاعر نفسه ، بما قد يستدل منه على اضطراب موقفه ، وتناقض رؤيته ومن طبيعة الصورة الشعرية التعطيل للإنكار ولو مؤقتا وقد يكون عقل الشاعر عاجزا عن استحضار الذكريات محاولة لدفن أو إخفاء الأحاسيس أو الأفكار المؤلمة من وعى الإنسان، وهذه الأحاسيس أو الأفكار بدورها قد تعود لتظهر علي السطح بصورة رمزية استراتيجيات نفسية تقوم بدورها عن طريق العقل اللاواعي بإنكار الحقيقة أو تغيرها أو التلاعب بها من أجل حماية الشخص من الشعور بالقلق وقد يجعل من محبوبة مخلصة ، امرأة لعوب متقلبة ، يستطيع أن يقول في نفس واحد : محبوب وبغيض ، وفي لحظة نجد أنفسنا في عالم تتلاشى فيه التناقضات منصهرة في كيان واحد بالشعور الذي أحسها به الشاعر ، والتصميم الذي ربط فنياً بينها .
الوقوف على الأطلال هي ظاهرة برزت عند الشعراء الجاهليين، فقد افتتحوا قصائدهم بالوقوف على الأطلال، أي بالوقوف على آثار ما تبقى من ديار المحبوبة. ومن الصور الشائعة في المقدمة الطلية أن يبدأ الشاعر بذكر الديار وقد عفت أو كادت آثارها أن تمحى، ثم يذكر الديار ويحدد مكانها بذكر ما جاورها من مواضع، ثمّ ينعتها بعد أن سقطت عليها الأمطار كما أن الأطلال تُجسِّد عملية ” اندثار المكان ومرور الزمن “، وهذه العملية تُورِث لوعةً حارقة في الوجدان الإنساني. ويمكن القول إن الأطلال هي الضريبة القاسية التي يَدفعها الشاعرُ من رُوحه وفكره وأعصابه وعُمره. يَدفعها بكامل إرادته، وكأنه اختارَ العذابَ طواعيةً دون إكراه.
لذلك لا يمكن للشاعر التناقض فيما يخص الديار او الاطلال يقول الشاعر الرويعي موسى
ريح الدار جابنها انسام
هاج الشوق في القلب الجريح
رقص في الجوف من حر الهيام
رقصة طير بالشفرة ذبيح
تظل الأطلالُ حجرَ الزاوية في قلعة الفِعل الشِّعري، والركيزةَ الأساسية في عالَمِ الذكرياتِ والحبِّ الضائعِ.
ما ادري كيف ساقني احلام .
وامتى جيت هنا بالصحيح
نا للدار جابني اقدام
ولا شيل شالتني الريح
بها صبيت رديت السلام
وشلت اعيون ماقيهن شحيح
بين اطلال كي خط الاقلام
الممحي دوب مايلمح لميح
رد الصمت كي صمت الاصنام
في الاحزان للحاير يبيح
تجرح فيه فردية حمام
تنوح انواح تمدحبه مديح
صفير الريح في افواه العدام
وبين الحيط هيالي فحيح
سماها فيه طير الليل حام
قبل الشمس للمغرب تميح
بلكي عيب يادار وحرام
تلاقى في بالوجه القبيح
أضفى الشِّعرُ على الأماكن صفاتٍ إنسانية، ومعانٍ وجدانية، فصارَ المكان جسدًا من لحم ودَم، وصارت الحجارةُ جوارح في هذا الجسد المكسور
ويقول الشاعر
والى العين النــــــــادي
نسوم رطب نعوشني وبل افوادي
وتمت العين تقول هيا غادي
انريد دارهم تحت المطر ننظرها .
حتى وهي مريبه من اخلاف مرادي
ومالها بلاه امعــاي ما يستــرها .
إلا اليوم مي ساعة معد اعدادي
و لا انريد نقرضها ولا نشكرها •
ولكن لا يَكتفي الشاعرُ بالوقوف على الأطلال، وإنما يَطرح عليها الأسئلة بلسان الحال أو بلسان المقال. فهو لا يَقْدر على الوقوف كالصنم بلا تفكير
رامي جيت من ضيق العلام
براحك ضاق عهدي به فسيح
وهمتي غي ماعندي ملام
انكان صحيح تبقى للصحيح
منك شلت من عشرين عام
ونا بغناي في اركانك صديح
ودم الوجه تايق م المسام
لين ايرد ينضحبه نضيح
سواده كيف غربان الظلام
شعر يادوب خدي مستبيح
انكان رقدت نضحك في المنام
وانكان اوعيت مبسوط وشريح
بوقوفه على الأطلال _ يَبعث فيها الرُّوحَ، ويستعيدها من قبضة الزمن، ولو بشكل مؤقَّت. وسوفَ تظل الأطلالُ حجرَ الزاوية في قلعة الفِعل الشِّعري، والركيزةَ الأساسية في عالَمِ الذكرياتِ والحبِّ الضائعِ.
دليف ارعدك في وذني انغام
وليل اشتاك في عيني فريح
عجاجك طيب يبرى م الاسقام
ودردي ماك في ريقي ذريح
وجيت اليوم من مر الايام
كيفك زاد نا وجهي كليح
وشيب الراس تاقن له اعلام
فجر اغر في ظلمة يزيح
حسايف كل مايخيب المرام
بكفي شاب من كتر المسيح
مامن حلم لطنه اقسام
وما من وجه فارقته مليح
ضروف الدهر فلن في العزام
بادن كيف مايبيد الصفيح
ياريت الدار تقدر عالكلام
علي اترد بالقول الفصيح
ابقي في خير يادار وسلام
على الله دوم نسماتك تفيح
سقاك الله من ريق الغمام
وجار ثراك من حر اللفيح
كما يقوم بعملية تطهير ذاتي تعيد العواطف إلى نِصابها الصحيح. كما أن استعادة التوازن العاطفي، والتخلصِ من الاحتقان الداخلي الذي يَقتل روحَ الإنسان، ويشلُّ تفكيره. الا لمنع الانفجار، والحيلولة دون الانهيار، فكثرةُ الضغط تولِّد الانفجارَ. وهذا ما يكون الا بالبكاء .
والى العين وحنّت ……………….. وع الدار صبّت ف الشبوب و صنّت .
تحناية العروس البكر بيه تحتنت
و بريح الثرى في جوّها بخرها .
ونا وايش ودّي غير وين تمنّت
مكسورة الخاطر ينجبر خاطرها .
في زمانها ياما بهلها رنّت وجيب وحيها منّه جفل طايرها .
و شربت الريح ابواخن لا دنّت اقدورهم مع دخان نار احفرها .
اللي اليوم في فاو الخلا تصنّت علي دبة النمله علي مجحرها .
وإن جيتا حديث الصمت فيه انطنّت
بحكايه طويله كيف طول دهرها .
وانجرحت علي فاهق الرحيل وغنّت علي مقام معزوفة الريح وترها •
ومن هنا نكتشف بعد إضافي للشعر فلا يكفي أن يكون تعبير عن العاطفة ومؤثر في الإحساس ولكن ينبغي أن يكون كذلك ترجمة لاستعادة الماضي واستحضار الذاكرة من خلال ربط المشهد المكاني مع التشكيل الوجداني
والى بعد تظليمه ………………….
رعد يطّحن جاب السحاب هشيمه .
لها فرحتي شنيتا بعزيمه
علي ياس من داري اللي فاكرها .
حتى لو عليها مزن يمطر ديمه
ماعد يردن كي زمان اصورها .
ولا لبرقها لو حر في تعليمه
من هلها يجي رواد يدهورها .
ولا يجيب منها علم عين الريمه
هي مجدبه واللا العون طقرها .
تباعد او وكر بين ناس امقيمه
و ان شا الله نقولوا غير يذكرها .
الا نا عزيز انحن لمواهيمه
ما دامت النيب اتحن لمواكرها
وطبيعة الشعر الذي هو رؤية إنسانية معقدة لاتخلو من خواطر إنسانية ذاتية، وخيالات على درجة ما، حتى وإن افترضنا -جدلاً- أن كل الشاعر عبر فعلاً عن تجربة واقعية، وأنه يصور معايشته لتلك التجربة من خلال أدوات فنية قد لا تتوافر لغيره من بقية الناس، وإلا عددنا جميع البشر شعراء.
وهذا يعني أن للشاعر معاناة مكنته من تعميق إحساسه، وابتكار الأساليب التعبيرية المناسبة الشئ الذي لم يجعل من شعره سطحياً ضحلاً لا ماء فيه، وهذه المقدمة الطللية حافلة بالتجارق التي جعلت الرويعي موسى يقدم تجارب فيها خصوبة وابتكار، رغماً عن أحادية الموضوع وتشابه المواقف.
والمقدمة الطللية جاءت لتمثل استجابة لحاجة الشاعر الإبداعية، ومدعاة لتفتيق موهبته الشعرية، ثم هي قناع فني توسل به الشاعر في الوصول إلى مايمكن قوله بعد تلك الأرضية التمهيدية التي لابد منها،
والى العين ارجاعه
وطن اندلق فوقه سحاب ارجاعه .
قدامه السيل يلتّ في زعزاعه جبّابها علي دفه اسواد حجرها .
الله يدومها نعمه و طيبك ساعه
اللي الدار ترشيح السما دردرها .
الها اسنين ما رجّت مع طرقاعه ولا فوق ماها برقها جوهرها .
من شيلته وهي شور الغبا تدّاعى قريب استدفت و امتحى مايرها .
حتى و شيلته منها بلا نقداعه لاي فأول الشيلات لاي فأخرها .
من خلقة الدنيا لا قيام الساعه و هي تشيل قوم و قوم تستوكرها .
او واخذه علي زنّاحة النقلاعه و قطعة الحس و دب صيد وعرها .
سبحانه لها جاعل الله بتاعه اللي ع الفراق و ع الجفا صبرها .
ونا شيل مرّه وين ذقت اجراعه
هشمني و نفسي هزّها و كسرها •
في محاولة للانكار ما حصل من تغيرات تحول الطلل بذلك إلى مكان خالي موحى بالخراب والدمار مورد العطاء وحيز الأنفعال، ساعدت على تحويل مشاعر وأحاسيس الشاعر، فبخواء القلب من الحب وابتعاد الحبيبة عن الديار خوت معالمها فكان البكاء على تلك الديار علامة ومتنفساً لما آلت إليه الأمور.
والى العين ثراها
وريح الندى قدّامها او وراهـــا .
وتغميض برقها ف الليل فوق وطاها
و دج السحاب لاربد اللي سكّرهــا .
و ايش خير من ساعة عياب سماها
عليها وهي زامطه ارياق الشرهه .
تجضمر مع حـن الشراب امعاها و اتنفّض عليها في عجاج قهرها .
مازالن إليالي بيض في ذكراها
لها يشفعن عندي إن بان غررها .
ونقول يا الله برّد صهيد أجواها
و تلاذيع سوط الشمس فوق ظهرها .
وأبهجها و خلى في رواق هواها
دودان الربيع ايزنّ فوق ابهرها .
تبريد لذع من فرقى عزيز نساها
كيما هجرنا يا العين هجرها
للأطلال دورا كبيرا و واسعا و مؤثرا في نفس الشاعر و عليه فإن هنالك صورتان للمطر في المقدمات الطللية و هي الصورة السلبية التي تمثل حزن الشاعر من جراء ما أحدثته المطر من دمار و لم يبقى إلا الطلل المؤثر في نفسية الشاعر.
و الصورة الإيجابية المتمثلة بالتفاؤل و الأمل و غالبا ما يأتي الشاعر في مثل هذه الصور لغرض التعبير عن المدح و الكرم و الإعتذار فضلا عن الغزل المتمثل في هذا النوع من الصور ويرى الشاعر ان المطر يلثم الارض بدفء وهو يحضن الذكريات بمعطف الحزن والانف تعانقه رائحة الثرى، وينظر إلى السماء وكواكبها ، ويراقب السحب والغيوم لأن إذا بعدت الحبيبة عن المشاعر فديارها حلت محلها في إثارة عاطفة الحب لدي الشاعر، فصارت الحبيبة وديارها وحدة متماسكة، فإذا كان الجزء الأول قد ارتحل، فإن الجزء الآخر قد حل محله. نصوص شعرية بارعة التصوير والتراكيب والالفاظ والمعاني، فهو يصف كيف يسوق الريح السحاب الى بعضه حتى يتراكب ويتراكم، ويجعل النهار كالليل لسواده وحجبه كامل الشمس، ويجعل الليل كالنهار لتواصل برقه وشدته، وكيف بدأ هذا السحاب (دك السحاب الاربد اللي صكرها) وهو ظل سحاب كالسراب لا مطر فيه، حيث أقبل السحاب الهتان فبدد الجهام وطرده من الآفاق، ثم بدأ السحاب المثقل بالمطر يقترب من بعضه تسوقه الريح ويلهبه الرعد والبرق، حتى صار السحاب متراكما قد جعل الآفاق ظلمات بعضها فوق بعض، لا ينير ظلماتها الا لمعان البروق، ثم زلزل الرعد ذلك السحاب المثقل بمثل ضرب الرحى (رعد يطحن جاب السحاب هشيمة)، حتى انهال بمطره الغزير على الأرض موصولا ب الرعد و البروق ليتتابع ويندفع ويزداد ويعم، حتى وطى الارض كلها وجعل مرتفعها كواطيها، وسوى عاليها بسافلها، وضجت منه حتى الوعول في أعالي جبالها، مطر كالطوفان تجري معه الوديان شهورا وتمتلئ السهول، وتظل غدرانه موجودة في مطامن الارض بعد عام..! ولكن كل هذا هي محاولة لانكار ما حل بالديار بعد رحيل الاحبة يقول ونا وايش ودي غير وين تمنت مكسورة الخاطر ينجبر خاطرها
ولا لبرقها لو حر في تعليمه
من هلها يجي رواد يدهورها .
ولا يجيب منها علم عين الريمه
هي مجدبه واللا العون طقرها .
حتى و شيلته منها بلا نقداعه لاي فأول الشيلات لاي فأخرها .
من خلقة الدنيا لا قيام الساعه و هي تشيل قوم و قوم تستوكرها .
او واخذه علي زنّاحة النقلاعه و قطعة الحس و دب صيد وعرها .
والشاعر ، كما هـو ملاحَظ بعـد أن يُفصـّل أشـياء المكـان ، ينتقـل إلى اسـتثارة الشـعور التراجيـدي لدى المتلقي بعد أن يربط تلك التفاصيل بخلوّها من أهلها الذين كانوا يشغلونها
الأشياء تستثير لدى الشاعر شعوراً بالأسى والحزن ، وبخاصة بعد أن يصـحو من ذكرياته ، ليكتشف أنّ كلّ شيء في المكان متروك ولا أحد فيه ، أو حوله
ونقول يا الله برّد صهيد أجواها
و تلاذيع سوط الشمس فوق ظهرها .
وأبهجها و خلى في رواق هواها
دودان الربيع ايزنّ فوق ابهرها .
تبريد لذع من فرقى عزيز نساها
كيما هجرنا يا العين هجرها