المكارثيّة ، على الرغم من غياب إسمها تصريحاً أو تلميحاً ، إلا إنها الغائبة الاكثر حضوراً بالمشهد الليبي طيلة هذه السنوات السابقة . المكارثيّة ، كما أشتقت تسميتها من السيناتور الامريكي (جوزيف مكارثي) ، كادت أن تدخل الولايات المتحدة الامريكية في دوامة رهيبة من الصراع الداخلي على النحو الذي شكل خطراً حقيقياً على إستقرار المجتمع و الإضرار بكل إنجازاته . استغل مكارثي ، في الخمسينيات من القرن الماضي ، الخوف من الشيوعية و من الإتحاد السوفييتي ” سابقاً ” ، و الخشية من ضرب الديانة المسيحية للمجتمع الأمريكي، و المكتسبات الوطنية للدولة الامريكية ، و أصبح يكيل الإتهامات ، لأفراد كُثر و من خلفيات و مرجعيات مختلفة ، بالشيوعية و العمل لحساب الإتحاد السوفييتي أنذاك . هذا السيل العرم من الإتهامات لم يقم على أساس متماسك أو دليل واضح ، لكن ، بسبب هذا الإستثمارللخوف و الرهبة ، جاراه الكثير من الناس ذاك الوقت ، و حدث نوع من الهوس الذي غاب معه كل حديث عن الموضوعية و التروي و العقلانية . كان لابد أن ينجم جراء هذا التدافع المدفوع بالخوف و الرهبة وحدهما ، عدد ليس بالقليل من الضحايا . لحُسن الحظ ، و للتعقل و لبعد النظر أيضاً ، سرعان ما تفطن ، قبل أن يغرق ، المجتمع الامريكي لخطر المكارثيّة على وجود المجتمع نفسه ، و وضع حداً صارماً و مقبرةً سريعةً لها ، قبل أن يتسرطن هذا الخطر الداهم و تفضي أعراضه في النهاية إلى إتهام الجميع ، أما بالشيوعية أو بغيرها ، و يصبح الكل ضحايا ، و أول الضحايا هي القيم و المبادئ المتعلقة بالحريات و الحقوق و العدل و القانون . توسع مفهوم المكارثيّة كثيراً عن الإطار التي ولدت به ، ليشتمل كل توجه يقوم على توجيه الإتهام دون أساس موضوعي أو دليل حقيقي ، بغض النظر ، كانت التهمة بالشيوعية أو بالجاسوسية أو بإي مسمى “لخطر” آخر . في ليبيا ، إستناداً إلى هذا المفهوم الواسع للمكارثيّة ، تشير غابة الإتهامات العريضة و المتواترة بالمشهد الليبي إلى أن المكارثيّة ليست منظورة فحسب ، بل ضاربة إطنابها بالمشهد الليبي ، و غارسة نصلها الدامي فيه بعمق و بإكثر من وجه .
الوجه الاول ، تلك الصورة المخيفة من سوق الإتهامات و توزيعها يمنة و يسرة و الكيد بالآخر دون أساس أو دليل . ما أسهل توجيه الإتهام ، و ما أوسعه في المشهد الليبي . هذا يتهم ذاك ، و ذاك يتهم هذا ، و هذا و ذاك يحذر من “خطر” هؤلاء و هؤلاء ، دون أدلة قائمة ، و لو على ساق واحدة ، و النتيجة هي بالتأكيد ضحايا كُثر ، و القائمة في إزدياد . المرة الثانية ، المكارثيّة “الليبية” تفوقت على نفسها ، و اجتهدت في صناعة التهم نفسها ، فضلاً عن تقاذفها ، و أصبح المشهد الليبي يفاجأنا كل مرة بخطر من نوع جديد و مبتكر، و كل فئة – بحسب حالها – تجتهد في إختراع و صناعة الخطر المقابل لها ، و تطبخ على نار هادئة أو متقدة ، إتهام مصنوع من خطر مصنوع . فيدرالي ، إسلامي ، ليبرالي ، أخواني ، جهوي ، أزلام ، ثوار ، أنصاري ، داعشي ، علماني …الخ . هذه كلها خطر محدق ، يستخدمها ، أو بتعبير أكثر دقة ، يستغلها البعض “كتهمة” جاهزة ، و خطر ماحق ، و صالح لإدانة البعض الآخر بها ، و “إقامة الحجة” عليه ، و بالطبع ، دون أساس رصين أو دليل متين ، يكفي فقط رمي أحدهم بالداعشية ، و عندها ستحجب ستائر الخوف و الرهبة من خطر داعش الرهيب أي حاجة للبحث عن مدى صحة التهمة من عدمها .
الأمر يبدو أنه خرج عن المنطق أو المألوف في هذه “الصناعة” ، إذ أصبحت التهم تصنع بإسم “مدينة” أو اسم “شخص” ، و يكفي أن تشير بالأصبع لمواطن ما ، منسوباً إلى مدينته ، أو قبيلته ، أو رئيسه ، أو قيادته ، أو قرابته ، أو فكرته ، أو إتجاه ميلته ، لتكون “تهمة” و يكون بعدها ضحية ” مؤكدة ” ، و من جديد ، دون أساس أو دليل ، سوى ذاك الفجور في إستغلال الرهبة و الخوف .
خطر المكارثيّة بالمشهد الليبي قد يؤدي إلى العصف بالمجتمع و الدولة معاً ، و دخولهما في نفق لا ينتهي إلا بنهاية الجميع . علينا جميعاً تقع مسؤولية إيقاف هذا الخطر الداهم و إزالته بكل الطرق و شتى الوسائل ، و من أولوليات السعي في هذا الإتجاه ، الإقرار و الإصرار على علو القانون و زيادة الوعي .