محمد عبدالرحمن شحاتة
“اغضُض من صوتِك؛ فهنا أناس يرقدون في سلامٍ إلى الأبد؛ ومخلوقات أخرى لا ينبغي على زائر عابرٍ إزعاجهم“.
ذلكَ ما سمعته من حارس المقابر؛ حين ذهبت إلى زيارةِ قبر أبي ذاتَ مساءٍ، فقد نويتُ من قبل أن أفعل ذلكَ بمجرد عودتي من الخارج، لذلك؛ أخذت سيارتي وذهبتُ إلى هناك، ولأني غائبٌ منذ سنواتٍ طويلة، لم يكن لديَّ القدرة على الوصول إلى القبر، فهيئة الشوارع قد تغيَّرت، قبورٌ هُدِمَت وقبورٌ تمَّ بناؤها، وذلك يعني أني سوفَ أحتاجُ إلى وقتٍ طويلٍ للوصول، وربما يجنُّ عليَّ الليلُ دون أن أصل، وهذا ما دفعني إلى الاستعانة بالحارس، فطرقتُ باب غرفته بشدةٍ، ولما فتحَ الباب بعدَ وقتٍ طويلٍ قلتُ بنبرةٍ عالية:
–ألم تسمعْ طرقي على الباب؟
فأجابني بالجملة التي بدأتُ بها حكايتي، ثمَّ أضاف…
–من أنت؟ ولماذا تطرقُ الباب هكذا؟
–اسمي “مراد الشربيني”، نجل المرحوم “جلال الشربيني”، عدتُ اليومَ من غربتي وأرغبُ في زيارةِ قبر أبي، هل يمكن أن تصحبني إليه؟
انفرجت شفتاه عن ابتسامةٍ باهتةٍ ثمَّ قال:
–وهل يستحق ذلك الأمر أن تزعجَ الأحياءَ والأمواتَ معًا؟ ولا أدري لعلَّ صخبكَ قد طال مخلوقاتٍ أخرى.
رغم عدم مقدرتي على فهم كلمة المخلوقات الأخرى، لكني قلتُ:
–اعذرني، لقد تأخرت في الوصول، والليل قابَ قوسينِ منّا أو أدنى.
–لقد عذرتك، ولكن أخشى أن تكون قد أزعجتهم.
قلتُ مستفسرًا:
–عمَّن تتحدث.. الأموات؟
–الأموات لا يعبرون عن انزعاجهم، ولكن أقصدُ هؤلاء الذين يتخذون من المقابر عالمًا خاصًا لهم؛ جن القبور، هؤلاء لا يترددون أبدًا في معاقبة من يتسبب في إزعاجهم.
نفختُ غضبي من فمي لما سمعتُ ذلك الهراءَ وقلتُ:
–لا تهدر الوقتَ رجاءً، اصحبني إلى قبر أبي.
–انتظرني، سوفَ أبدِّل جلباني وأعود إليك.
تركني واختفى داخل غرفته المظلمة، وبعدَ ثوانٍ قليلةٍ، عاد إليَّ وقد بدلَّ جلبابه.
لقد تركَ باب الغرفةِ مواربًا ولم يقم بإغلاقه، ثمَّ سار إلى جانبي، كانَ صامتًا كالقبور التي نمر بها، حاولتُ أن أتحدَّث إليه؛ لقد استفسرتُ منه عن هيئة القبور التي تغيَّرت، وكم أصبح الوصول إلى قبر أبي أمرًا صعبًا، لكنه لم يعرني انتباهًا، وكأني أتحدثُ إلى جثةٍ متحركة تسيرُ إلى جانبي، لا قدرةَ لها على الاستماعِ والرد.
ما إن دخلنا الشارع الذي فيه القبر حتى عرفته، لم تتبدل هيئة الشارع كما حدث مع الشوارع الباقية، لذلك؛ أسرعتُ من خطواتي كي أصلَ إلى القبر.
وقفتُ أمام القبرِ متأملًا اسمَ أبي المحفور على الرخامة، وبطرفِ عيني؛ لمحتُ الحارسَ يقتربُ، حتى وقفَ في مكانٍ قريبٍ منّي، لم يرد أن يخترقَ الخصوصية بيني وبين أبي، رفعتُ كفيَّ أمامَ وجهي؛ كي أبدأ في قراءةِ الفاتحة، وفي منتصفِ السورة اخترقت أذنيَّ صرخة مهيبة، ارتجفَ على إثرها قلبي، كان الحارسُ هو مصدرُ الصوت، قطعتُ قراءتي ثمَّ نظرتُ إليه، لأجدَ الجلبابَ الذي يرتديه الحارس يفترش التراب، أما الحارسُ نفسه، فقد كان كفقاعة فقأتها غبارة فتلاشت في طرفةِ عين.
أصابني الهلع، وقفتُ مذهولًا أنظرُ إلى الجلباب الذي غبَّره التراب، متسائلًا في نفسي عن الحارس الذي تبخَّر، إن الأمرَ مرعبٌ إلى حد كبير، وقد جعلَ الليلُ الذي اشتدَّ من الأمرِ أكثر هولًا، حاولتُ تحريكَ قدميَّ فوجدتهما جزءًا من الأرض، لقد أبتا أن تتحركا، شعرتُ وكأني أصبحتُ حبيس المقابر، لا فرصةَ عندي للفرار، ثمَّ شعرتُ بالعَرقِ يخرجُ من مسامي ويغرقُ جسمي، بينما أنظرُ إلى الجلباب الذي بدأ يهتزُّ، لقد بدا وكأنَّ شيئًا يتحرك بداخله.
لقد تطورَ الأمرُ، نهضَ الجلبابُ من تلقاء نفسه، انتصبت قامته في الهواء كأنَّ شخصًا غيرَ مرئي قامَ بارتدائه، ثمَّ تحرك حولي في دائرةٍ، كأنه يطوِّقني، وتبعثُ برسالةٍ إليَّ مغزاها أني مُحاصرٌ هنا، كدتُ أن أبتلعَ نفسي من الخوف، تمنيتُ لو أنَّ حواسي تعطَّلت؛ فلا أشعرُ بما يدورُ من حولي، لكن الأمنيات تصبحُ ضربًا من ضروب الخيال أحيانًا.
إن ذلكَ ما حدث، لقد احتلَّت أذنيَّ الصرخاتُ التي انطلقت من الجلباب، لكنها صرخات ممزوجة بكلماتٍ ربما سمعتُها منذ دقائق قليلة، لقد كان الصوت الذي يتسلل من بين الصرخاتِ يقول:
–هل تجرَّأت على إزعاجنا؟
أجبتُ مرتجفًا:
–هل أنتَ من الأموات؟
فجأةً؛ تحولتِ الصرخاتُ إلى قهقهةٍ مُجلجلةٍ، ثم قال:
–الأموات لا يعبّرون عن استيائهم، ولا يعاقبون من تسبب في إزعاجهم.
–إذن أنت من عالمٍ آخر غير عالم الموتى.
–تمامًا كما قلتَ، جنيٌّ من جِن المقابر، جئتُ مُكلَّفًا بعقابك؛ لأنك رفعت صوتكَ في عالمٍ لا تمتلكُ فيه إذنًا كي ترفعَ صوتك فيه.
أرهبني ما سمعتُ فصدَّقتُ ما أنكرته على الحارس، وأدركتُ أني هالكٌ لا محالة، لم أكن أصدِّقُ ما يحدثُ إن سمعته من لسانِ أحدٍ غيري، لكنه يحدثُ معي، فكيف لي ألا أصدقَ نفسي؟
أغمضتُ عينيَّ مستسلمًا لمصيريَ المجهول، لكني لم أستطع منع أذنيَّ من سماع الصرخات التي عادت مرةً أخرى، بقيتُ في مكاني عاجزًا عن الهروب، فاقدًا التحكم في قدميَّ، لكن الصرخات تلاشت فجأةً، عاودتُ فتحَ عينيَّ؛ فوجدتُ الجلباب يفترشُ التراب مرةً أخرى، وكأنَّ الذي يرتديه قد غادره.
في ظلامِ القبورِ؛ راودَ عينيَّ ضوءٌ قادمٌ من بدايةِ الشارع، كان يقتربُ رويدًا، لكن تلكَ المرَّةِ لم أكن عاجزًا عن تحريكِ قدميَّ، رغم ذلك بقيتُ متجمدًا في مكاني، فلم تكن لديَّ القدرةُ على مواجهةِ الشيء الذي يقتربُ منّي، لولا أن أدركتُ مع الوقت أنه شخصٌ يحملُ مصباحًا، وحينَ أصبح قريبًا، وجدته حارس المقابر، الذي كان من المفترضِ أنه جاءَ معي حين وصلتُ إلى هنا.
على ضوءِ المصباح، وقفَ ينظرُ إلى الجلبابِ الذي يفترشُ التراب، بينما كنت أفعلُ مثله تمامًا، لكنه قطعَ صمتيَ قائلًا:
–لماذا تركتني وذهبتَ وحدك؟ ألم تطلب منّي مرافقتك؟ ومن الذي جاء بجلبابي إلى هنا؟
بلسانٍ مرتجفٍ؛ سردتُ له ما جرى معي؛ فأخبرني أنَّ جنيًّا من الذين يسكنون المقابر قد تجسَّد لي في هيئته، مرتديًا جلبابَه، ليصحبني داخلَ المقابر كي يتمكن من إيذائي، وأنه قد انصرفَ من المكان بمجردِ أن رأى الحارسَ يحملُ مصباحه ويقتربُ.
لقد أدركتُ ذلك قبل أن يفسِّرهُ الحارس، الذي أخبرني أنه قد ارتابَ من أمر ذهابي، فخرجَ للبحثِ عني، ولولا أنه فعل ذلك لأدركني الهلاك.
ثمَّ أدهشني حديثه الأخير، حينما قال:
–تعالَ؛ سوفَ أصحبكَ إلى قبر أبيك.
حينها نظرتُ نحوَ القبر الذي قرأتُ اسمَ أبي على رخامته، وكدت أن أقرأ الفاتحة أمامه وقلتُ:
–إنه هنا و…
لقد انعقدَ لساني فلم أستطع استكمال حديثي، لقد كنتُ أقرأ الفاتحة أمام قبرٍ قديمٍ ومهجور، ولا أعرف كيف قرأت اسمَ أبي عليه، حتى أخبرني الحارس بكل شيء، فأدركتُ أن ما رأيت كان خدعةً قامَ بها جنيُّ المقابر؛ كخدعةِ تجسّده في هيئةِ الحارسِ وارتداء جلبابه، ثمَّ اصطحبني إلى قبرٍ مهجورٍ حيثُ يسكنُ فيه، لأنهم يسكنونُ الأماكنَ المهجورة والخَرِبَة، حتى وإن كانت داخل المقابر.
أفقتُ من شرودي أمام قبر أبي، بعد أن ذهبتُ مع الحارسِ إلى هناك، قرأتُ الفاتحةَ فهدأتُ قليلًا، قبل أن يصحبني الحارسُ إلى خارج المقابر، وأوصاني ألا أرفعَ صوتي وسطَ القبور والأماكن المهجورة مرةً أخرى، فهناكَ من يسكنون هذه الأماكن دائمًا، وحتمًا سوفَ يثير الإزعاجُ غضبهم، ويعتبرونَ الأمرَ تطاولًا على عالمهم.