في ثلاثينيات القرن الماضي التحق مواطن ليبي ببعثة إيطالية متخصصة في النشاط الصحي والطبي تعمل باليمن وظل يشتغل معها هناك متنقلاً بين عدة مدن لمدة عقد كامل من الزمن حتى غادرها عائداً إلى موطنه ليبيا في منتصف الأربعينيات، وخلال تلك الفترة كتب ونشر عدداً من نصوصه الشعرية التي ظلت بكل أسف مجهولة كلياً وغائبة عن مدونة الشعر الليبي، ولم تنشر إلاّ مؤخراً خلال سنة 2013 حين أصدر نجله الديوان الوحيد لوالده الراحل تحت عنوان تقليدي صريح باسم (ديوان شعر)(1).
ولقد وفر هذا الديوان نبذة يسيرة عن صاحبه الشاعر محمود عبدالمجيد المنتصر الذي ولد سنة 1915 بمدينة مصراتة وتعلم في مدارسها الحكومية العربية والإيطالية، وأتقن اللغتين الإيطالية والانجليزية إضافة إلى اللغة العربية الأمر الذي مكنه من الانضمام للعمل مع بعثة إيطالية تهتم بالمجالات الصحية وسافر معها سنة 1935 إلى اليمن التي كانت تعرف آنذاك بالمملكة المتوكلية اليمنية وظل مقيماً هناك لمدة عشر سنوات، يعمل بها وينظم وينشر بعض قصائده الشعرية في عددٍ من الصحف الصادرة بها و عندما عاد الراحل محمود عبدالمجيد المنتصر سنة 1945 إلى أرض الوطن ليبيا اشتغل مع الإدارة البريطانية في طرابلس ومصراته حتى نالت ليبيا استقلالها سنة 1951.
وهو يعد من جيل الرواد الذين أسهموا في بناء وتكوين الجهاز الإداري للدولة الليبية الناشئة حديثاً آنذاك، حيث عمل متصرفاً في عدة مدن من بينها زليطن وترهونة وغريان وناحية سوق الجمعة بمدينة طرابلس، ثم نقل سنة 1956 إلى إدارة الأملاك الليبية، وتقلد بعدها مناصب عديدة في نظارة المواصلات بولاية طرابلس الغرب، ثم نظارة الصحة، كما تولى منصب وكيل وزارة الصحة ثم وكيل وزارة الدولة للشؤون البرلمانية في دولة الاستقلال وظل يمارس مهام عمله حتى أحيل إلى التقاعد عقب سبتمبر 1969 حتى وافاه الأجل في شهر أغسطس 1973.
المنتصر الشاعـر:
لم تتضمن مصادر التوثيق الأدبية والشعرية الوطنية الليبية أية إشارة أو ذكر للشاعر محمود عبدالمجيد المنتصر كأحد الشعراء الليبيين رغم نشره بعض قصائده في الصحف الليبية أهمها “جريدة طرابلس الغرب” وكذلك المجلات العربية مثل مجلة “فتاة الجزيرة” و”مجلة المرأة” على وجه التحديد بمدينتي “تعز” و”عدن” في اليمن. ويبدو أن سبب عدم معرفة هذا الشاعر الراحل يرجع إلى عدم صدور أي ديوان أو دراسات تتناول قصائده الشعرية، أو كما يقول ابنه معللاً في مقدمة الديوان (.. ربما يكون السبب وفاته في سن مبكرة نسبياً سنة 1973 عن سن تناهز الثامنة والخمسين عاماً)
موضحاً (كتب والدي معظم أشعاره في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي أثناء إقامته في اليمن، وبعد رجوعه إلى أرض الوطن في منتصف أربعينيات القرن الماضي، انهمك في العمل السياسي الإداري وبناء دولة ليبيا. وفي الحقيقية لم أعلم بغزارة الإنتاج الشعري لوالدي إلا بعد وفاته حيث وجدت قصائده بين مختلف الأوراق والوثائق التي تركها، وكان كثير من المهتمين من الوسط الأدبي يحدثونني عن أشعاره حينما كنت ألقاهم وأتعرف عليهم، بعضهم أعطاني بعض الجرائد والمجلات القديمة التي كانت تنشر قصائده)(2).
وعن ظروف وأسباب تجميعه لنصوص والده الراحل ونشرها في هذا الديوان يقول الدكتور خالد المنتصر (كان كثير من أصدقاء والدي وبعض الأقارب يحثونني على تجميع ونشر قصائده، كذلك يجب التنويه إلى صديق اسكتلندي الجنسية معروف بإنتاجه الأدبي اسمه يان جولبرايث Iain Galbraith يعيش بمدينة فيسبادن بألمانيا وآخر إنتاج أدبي له في سنة 2012 كتاب عنوانه Beredter Norden حيث ترجم فيه أكثر من 300 قصيدة من الشعر الاسكتلندي إلى اللغة الألمانية.
أثناء زيارتي السنوية لألمانيا كنت أزور يان ونتحدث في الأدب العالمي وكنت أحياناً أترجم له بعض البيانات من قصائد والدي التي كنت أحفظها، ورغم أنه لا يتكلم العربية إلا أنه كان من أكثر من يحثونني ويشجعونني على هذا العمل.)(3)
ويواصل قائلاً (رسخت الفكرة في ذهني إلا أنه قابلتني بعض المصاعب، أولها الجو السياسي العام في ليبيا أثناء حكم القذافي، فنشر أي إنتاج أدبي لا يتم إلا بموافقة أمنية، وعن طريق دار نشر تابعة للنظام وخفت أن يستغل الإنتاج في الدعاية إلى ما يسمى في ذلك الوقت بثورة الفاتح.
العقبة الثانية هي طباعة القصائد المكتوبة بخط اليد قبل أكثر من سبعين سنة، فأنا منذ مرحلة دراستي الثانوية قبل أكثر من أربعين عاماً لم استعمل إلا اللغتين الالمانية والانجليزية في مجال تخصصي الطبي، وكنتُ أخاف أن أرتكب بعض الأخطاء النحوية أثناء نقل المكتوب باليد إلى المطبوع، ولحسن الحظ تعرفت عن طريق ابني (الصديق) على أديب شاب هو الأستاذ محمد النعاس الذي أبدى استعداده وأنهى المهمة على أحسن ما يرام وله جزيل الشكر على ذلك.)(4)
الشاعـر والشعـر: تضمن الديوان الصادر بعنوان (ديوان شعر) للشاعر الراحل محمود عبدالمجيد المنتصر خاطرة كتبها تحت عنوان (أنا والشعر) تبيّن علاقته بهذا الجنس الإبداعي يقول فيها (كثيراً ما كانت تتوق نفسي لقرض الشعر، ولكنني لم أوفق فيما مضى لأسباب كثيرة منها: المحيط وعدم وجود المشجع، والسبب الذي يوحى الشعر. ورغم هذا كنتُ واثقاً من قدرتي على نظم بعض الأبيات التي تتطور بالممارسة والشغف، دليلي على هذا إني قلتُ قبل ثمان سنوات اثنى عشرة بيتاً في حصاني الذي يبقى معي ذكره ما دمتُ حياً.)
ويضيف موضحاً (الشعر هو كل شيء، فيه التعبير عن الضمير وبه ترتاح النفس الحري، وإليه يميل اللبيبُ. الشعر هو أجمل ما في الحياة ولا يعرف الشعر إلا الشعراء، وهو أفصح معبر عن الوجدان، رحم الله من قال: أنتم الناس أيها الشعراء!)(5).
ومن خلال توضيح الشاعر نفسه في هذه الخاطرة النثرية نكتشف مدى شغف الراحل محمود عبدالمجيد المنتصر بالقريض وأسلوب نظمه الموحد في جميع قصائده المجمعة الذي أبرز فيها أغراضه الوجدانية وأسلوبه المنتمي إلى النظم العروضي الخليلي التقليدي، حيث لم تكن موجة التحديث الشعري المتمثلة في القصيدة العمودية أو قصيدة النثر في الشعر العربي قد انتشرت بعد خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم.
وبالإضافة إلى تلك الخاطرة النثرية فقد عبر الشاعر عن تعريفه ومفهومه للشعر في قصيدته المنشورة بعنوان (الشعر) التي يستهلها بقوله:
الشعـــرُ في فلكِ الإلهامِ تـــــــــيارٌ أو نفحة في سماءِ الخلدِ معطارُ
أو زورةٌ زارها الشيطانُ صاحبَه يُوحِي اللهُ بما يهوىَ ويخـــــــــــــتارُ(6)
ويواصل شاعرنا وصف الشعر وغاياته النبيلة في أبيات قصيدته قائلاً:
به التناجي لمنْ يشكُو صبابـَتَه وَسَلِسٌ عذبُه تُطفَى به النــّـــــــارُ
كأنه ذوبُ قلبٍ عـــزّ مطلـــــــــــبُه والذوبُ من قلمِ المُشتاقِ أشعارُ
مَا كانَ نظماً ولا وزناً ولا قافيةً لكنّه الدمـْـــــــــــــعُ تجري بهِ أنهارُ
كـأنّه البحرُ والتفكيرُ بحــــــــــــــــارٌ كأنه فائضٌ والمــــــوجُ زخّــــــــــارُ(7)
ومن خلال هذه الأبيات الجميلة والعميقة الدلالة نكتشف أن الشاعر يذهب بعيداً في مفهومه للشعر يتعدى الإطار الشكلي والبناء الكلاسيكي للقصيدة بأوزانها وقوافيها ليكون الشعر لديه هو “ذوب قلب” و”دمع أنهار” و”بحر” وهذه كلها إشارات توحي باهتمام الشاعر بالحس الوجداني للقصيدة الشعرية وأهداف رسالتها إلى المتلقي.
وقد ضم هذا الإصدار (ديوان شعر) تجميعاً لقصائد الشاعر المتوفرة بعد رحيله بلغ عددها (46) ستة وأربعين قصيدة جاءت على النحو التالي: أول أبيات قلتها بتعز اليمن، البديع، إلى عامر، ما قالته سليمة، أرى كثر أشواقي تزيد عن الصبر، يا أيها القمر المنير، ورد الرسول مع الأصيل، ما أجمل العيش والأوطان تجمعنا، مناجاة الطير، يا غادة الصحراء، وبتنا وقد ضمنا مطرف، إلى عبد الرقيب، ديارُ حبي في قربٍ ولم أنم، أنا، الغصن المشون، رمضان، من للكميت اليوم بعد أفوله، الحنين إلى ميمون، بين ورد لثم خد طاب لي، عنادل الروض، عم السرور، القلب يخفق والمحاجر تدمع، يا من أعيش، نوائح أيكٍ، إلى ما وراء البحار، وحي العيد، القلب المذبوح، تطوى الليالي، فلا تعذلوني، رمى النسيم، أنسيت ؟.هوّن الخطب كل خطب جديد، تمرّد، دمعة، بين الضلوع، الفقير، الشعر، تحية العيد، العداوة، السعادة، ذكرى، العبيدي، فلسطين، إلى روح الرصافي، حيرة. إضافة إلى قصيدة مرسلة إليه من الشاعر اللبناني سليم الحوراني ينقل فيها إعجابه بإحدى قصائد شاعرنا المنشورة بصحيفة “طرابلس الغرب”.
الملامح الشعرية لقصائد الشاعر المنتصر:
كل القصائد المنشورة بهذا الديوان تنتمي بجدارة إلى عصرها الثلاثيني والأربعيني حيث جاءت عروضية تقليدية خليلية، أما عناوينها فكانت طويلةً ونمطية كلاسيكيةً، وأبياتها متعددة الأوزان ومتنوعة القوافي وهو ما يبرز تنوع الإيقاع الشعري والحس الموسيقي لدى الشاعر. كما نلاحظ أن بعض تلك العناوين قد ظل غامضاً، غلب عليه الشأن الشخصي الذي لا يمكن التعرف عليه في غياب الشاعر نفسه كالإهداء الوحيد للروح الطاهرة عبدالمجيد رحمه الله في قصيدته (من للكميت اليوم بعد أفوله) وأسماء الشخصيات الواردة بواجهة عناوين بعض قصائده مثل (إلى عامر) و(ما قالته سليمة) و(الحنين إلى ميمون) وغيرها، فكيف لنا أن نعرف من هو (عامر)؟ ومن هي (سليمة)؟ ومن هو (ميمون)؟ طالما أن الشاعر لم يترك لنا أثراً لأية معلومات حول تلك الشخصيات ومستوى علاقاته معهم ؟ وإن التزم شاعرنا في جميع قصائده النظم التقليدي الخليلي فإن نمط التجديد في شكل البناء الشعري قد ظهر في خماسياته الشعرية (مناجاة الطير) ورباعياته (إلى ما وراء البحار) وثلاثياته (تمرد) في تقليد واضح للموشح الأندلسي، أما من حيث الغرض والموضوع في شعر الراحل محمود عبدالمجيد المنتصر فقد غلب عليه التعبير الشخصي الوجداني ومحاورة الذات وشجونها، والتواصل مع الأصدقاء، والشوق إلى الربوع والأهل وإن لم يكن ذلك بوحاً صريحاً مباشراً، كما نجد الشاعر يتماهى في إحدى قصائده مع الطير ليشاركه بث مشاعره وأحاسيسه على لسانه في حوار شعري تميز بالتنوع الإيقاعي وسعة الخيال الخلاب ورحابته.
كما ظل طيف المرأة، ووجه القمر، والأوطان، ومعاناة الغربة، والبين، والفراق، والتذكر والحنين، وتوثيق ذكرى حلول شهر رمضان المبارك والعيدين والمناسبات الدينية الأخرى كالمولد النبوي الشريف هي أبرز الصور الشعرية والأغراض التي تناولها الشاعر في قصائد ديوانه، وفي كامل الديوان لم نلحظ انشغال شاعرنا بالشأن القومي العربي عدا قصيدته اليتيمة (فلسطين) المنشورة بجريدة طرابلس الغرب عام 1948 أو متابعته للشعراء العرب من خلال قصيدته (إلى روح الرصافي).
وعند البحث عن صور وأنماط ورموز الهوية الليبية في قصائد الشاعر محمود عبدالمجيد المنتصر فإننا لا نعثر على أثر بيّن أو ظهور غزير لها، بل يمكن القول أنها غابت تماماً وخلت منها جلّ قصائده الشعرية، حيث لم نرصد في هذا الديوان أي ذكر للعادات والتقاليد الليبية أو شخصيات وطنية أو وصف منطقة جغرافية ليبية سوى وادي “سوف الجين” في قصيدة (نوائحُ أيكٍ) أو “ذات الرمال” كناية عن مدينته مصراته في قصيدته (أولُ أبياتٍ قلتُها في تعز اليمن). وفي المقابل يبرز تأثره بالبيئة اليمنية في أشعاره بدرجة نسبية بداية من تضمينه أسماء المدن “تعز” و”عدن” في عناوين قصائده إلى التعرض لبعض الأحداث في متون أبياتها.
ومن حيث عمق النفس الشعري وطوله وفقاً لعدد أبيات قصائد الشاعر الراحل محمود عبدالمجيد المنتصر نجد أن أطول قصيدتين قد تضمنتا واحداً وأربعين بيتاً وهما (الشعر) و(العبيدي)، أما أقصر نصوصه فجاءت في بيتين فقط تضمنها (ملحق) الديوان قالهما الشاعر المنتصر بمجلس الأمير بمدينة تعز بتاريخ 17/8/1941 في مدح السيد حسين الويسي، أما غير ذلك فقد غلبت عليها المتوسطات والتي تراوحت بين العشرة أبيات والثلاثين بيتاً وعلى صعيد مكان ولادة وكتابة القصائد فقد كانت اثنتان وعشرون قصيدة تعزّية أي نظمت بمدينة تعز اليمنية وهي (أول أبيات قلتها في تعز، البديع، إلى عامر، أرى كثر أشواقي تزيد عن الصبر، مناجاة الطير، وبتنا وقد ضمنا مطرف، إلى عبد الرقيب، أنا، الغصن المشون، من للكميت اليوم بعد أفوله، عمّ السرور، وحي العيد، القلب المذبوح، رمى النسيمُ، أنسيتَ؟، هوّن الخطب كل خطب جديد، تمرد، بين الضلوع، الفقير، العداوة)، وقصيدة واحدة عدنية هي (الحنين إلى ميمون)، أما بقية القصائد فلم يأتِ بالديوان أي ذكر لمكان كتابتها.
للحديث بقية