بقلم الشاعرة/ شريفة السيد
================
تسببت حكمت الشربيني في كسر الراديو الترانزستور أكثر من مرة. إذ كنت أنام على صوتها، فيسقط الراديو أرضا ويتهشم. أصحو فأجد صوتا من الجنة يرن في أذني ويضيء غرفتي المظلمة. أجمع أنقاض الراديو؛ فيصلني صوت أبي: (انتي تاني…؟ طب نامي وانا بكرة اجيبلك غيره).
في المرحلة الثانوية كنت أحلم بها تقرأ لي ولو قصيدة واحدة في برنامجها (شعر وموسيقى) إذا قُدر لي أن أكون شاعرة؛ فإذا بها تقرأ ديواني الأول كله قبيل نشره وهو لا يزال مخطوطا، دون تعنت منها بضرورة نشره وتوثيقه قبل تمريره من الإذاعة. كان برنامجها جواز مرور الشعراء الى العالم الرحيب. وأكبر دليل على ذلك أنني تقابلت مع شاب في الإسكندرية وأطلعني على قصيدة لي مكتوبة بخط يده. ولما سألته: (جبتها منين؟ دي مش منشورة في كتاب.؟) قال: (كنت باستنى قصايدك في برنامج شعر وموسيقى واسمع واكتب ورا الأستاذة حكمت) يا الله.. يا لهدايا السماء البديعة…!
وكانت حكمت قد سمعتني في كلية دار العلوم. وبذائقة حساسة رشحتني لحفلات شعرية وتبنت أعمالي، استقبلتني في مكتبها بفرح غير عادي وحب وترحاب. كانت أحن عليّ من أمي التي ضربتني قائلة: (الشعرما بيأكلش عيش).
فيما بعد تيقنتُ أن الكرمَ أبوها والمحبةَ أمُها، وأن الدقةَ في العمل ذراعُها الأيمن والتفاني وعشقَ الشعر ذراعُها الثاني، وتأكدتُ أنها علامة بارزة في الإذاعة المصرية والشرق الأوسط تحديدا، في برنامج لم يتكرر بل أصبح كورشة تدريب على الإلقاء لكل عشاق الشعر. كانتْ من الدقة التي أصبحتْ معها مصححًا لغويًا ومراجعًا أدبيًا لبعض الشعراء إن وَجدَتْ أخطاءً في نصوصهم، حتى في موسيقى الشعر، أستاذة بمعنى الكلمة.
كانت حلاوة صوتها الآسر تحتضن العالم كله ليلا. وهذا هو سر جمال المشهد الثقافي وقتئذ. من خلال أدواتها الخاصة؛ دقة النطق وقوة الأداء وانسيابية العزف وتناغم كل هذا مع الكلمات. كان اختيارها للمقطوعات الموسيقية المصاحبة للشعر عمودًا أساسيًا من أعمدة نجاح البرنامج. ولا أدري لماذا حرمونا من هذا الجمال؟ في وقت نحتاج فيه أكثر إلى تلك اللحظات الصافية الرقراقة.
لقد فقدنا أعظم البرامج بتوقيف هذا العزف المنفرد المتفرد. وخسرنا أحلى الأوقات بتوقيف هذه الترانيم الصوفية الصافية. فقدنا أنفسنا حين فقدنا برنامج شعر وموسيقى. وليتهم يعيدون النظر في عودته. فلا تزال كنارية الإذاعة تعيش وتمتلك من قدرات العطاء ما لا يمتلكه شباب اليوم. ليتهم يعيدون الرّوح إلينا بعودتها وبرنامجها شعر وموسيقى. وبعيدًا عن الروتين والقوانين أعتقد أنهم سيفعلون. فنائب رئيس الاذاعة سابقا منصب يعني أنها كانت القائم بأعمال رئيس الإذاعة، وقديرة على ذلك ونفتخر.
حكمت الشربيني ـ بصوتها المثقف ـ صنعت لنفسها هالة من النور مدهشة، وسياجًا من المحبة وجسرًا من الإخلاص بينها وبين الإذاعة وجمهورها. فسميتها (معشوقة الجماهير) لكثرة محبيها، وأسيمتها (صانعة الفرح)؛ لما لها من أيادٍ بيضاء على معظم جيلي، لذا أعترف بفضلها بعد الله في تعريف جمهوري بي. فشكرا لصانعة الفرح..
في صالونها الثقافي المميز فاجأتنا بالمجموعة القصصية (قرش صاغ)، لكنني لم أتفاجأ بكونها طاقة خلاقة ولديها قدرة على العطاء أكثر وأكثر. ولم أتفاجأ بأنها كتبت نفسَها ومشاعرها الفياضة وروحَها الطليقة هنا وهناك وحالات محيطة بها، فهي تكتب من مخزون ثقافي ومجتمعي، وكل أدواتها البراءة والرقة والعذوبة والنشاط والحيوية ورشاقة الحرف ودقة الوصف والصدق وسلاسة العرض، وكما أسرتنا بصوتها تأسرنا الآن ببساطة الحكي وتلقائية السرد، وقدرتها على إدخالنا لعالمها ومعايشة الحدث، تكتب بقلم الراوي وروحها معلقة بتراب مصر وبأئمتها ومساجدها وكنائسها، وعيونها ترصد وتصور بعيون وكاميرا الفنان..
فطلبتُ مجموعتها القصصية (قرش صاغ) في ملف إليكتروني فسبقها صوتُها حاضرًا مسيطرًا عليّ محيطا بي، ومحلقا في سمائي.
ليس كثيرًا عليها أن تصف نفسها في أول قصص المجموعة أنا (الحُكومة الصغيرة). صحيح أن هذا هو دلع اسمها من حكمت؛ لكنها في الحقيقة كذلك، حكومة في ذاتها، لما لها من هيبة وحكمة في الإدارة لشؤون كثيرة تعج بها حياتها المشحونة بعشرات الأمور. ولي وقفة أدبية قريبا ان شاء الله مع (قرش صاغ) لأنها تقترب من روح الروائي عبد الحليم عبد الله في حقبة زمنية ومن الروائي أحمد الشيخ في حقبة زمنية أخرى، في ثوب الأصالة والمعاصرة.
فقط يسعدني الآن أن أهنئها بصدور الكتاب فأقول: (مبروك عليكي يا حكومة صدور الـ قرش صاغ). وتقبلي حبي واحترامي الشديدين يا ملكة قلبي يا سيدة النبلاء.
.
حاشية :
الحكومة/ هو اسم الدلع للست حكمت