عندما لا يكفي أن تُقرِّر الدور القادم

عندما لا يكفي أن تُقرِّر الدور القادم

لم يكن القرار هو المشكلة.

تقرير : رضوان خشيم

القرار اتُّخذ، وسُجّل رسميًا، ووُضع على قائمة انتظار.

المشكلة كانت في المسافة بين أن يقرّر الإنسان التوقف، وأن يحاول الصمود حتى يأتي دوره.

سالم (28 عامًا)، من مدينة طرابلس، حاول أكثر من مرة أن يتوقف بمفرده. خفّف التعاطي، انقطع أيامًا، ثم عاد. في كل مرة كان يظن أن الإرادة وحدها كافية، لكنها لم تكن كذلك. بعد محاولات لم تكتمل، اختار اللجوء إلى مسار علاجي منظم، وتقدّم بطلب للعلاج الطوعي من الإدمان. منذ ذلك الوقت، مرّ أكثر من شهرين، ولا يزال ينتظر موعدًا لم يُحدَّد بعد، في مرحلة لا تساعد كثيرًا على الثبات.

في ليبيا، لا يوجد سوى مركز واحد لعلاج وتأهيل المدمنين، يقع في مدينة مصراتة. يستقبل هذا المركز حالات من مختلف المدن والمناطق، ويعمل ضمن قدرة استيعابية محدودة، جعلت من الانتظار جزءًا من تجربة كثيرين، لا مرحلة عابرة فيها.

وخلال عام 2025، استقبل المركز ما يقارب 2000 حالة، تشير بياناته إلى أن نحو 72% منها لشباب دون سن الثلاثين. رقم يعكس حجم الإقبال، ويكشف في الوقت نفسه عن الفئة العمرية الأكثر حضورًا في مسار العلاج، والأكثر تأثرًا بتداعيات السنوات الماضية.

بحسب أنور يونس، مدير إدارة الشؤون الطبية بالمركز، فإن هذا الواقع دفع الإدارة إلى التفكير في حلول توسعية، من بينها العمل على افتتاح فروع في عدد من المدن الليبية، بهدف تخفيف الضغط، وتقريب الخدمة من الفئات التي تحتاجها.

كما يلفت إلى أن الحالات التي تصل إلى المركز تتنوع في أعمارها وخلفياتها الاجتماعية، وتشمل بالغين وقُصَّر، كان أصغرهم طفلًا في الثانية عشرة من عمره، ما استدعى إنشاء قسم مستقل يراعي خصوصية هذه الفئة.

داخل المركز، لا يُنظر إلى العلاج باعتباره إجراءً طبيًا فقط.

ويوضح معاد الأصيفر، مدير إدارة التدريب وتأهيل النزلاء، أن البرامج المعتمدة تقوم على إعادة تنظيم الحياة اليومية للنزيل، لا الاكتفاء بسحب السموم. وتشمل هذه البرامج تأهيلًا نفسيًا، إلى جانب أنشطة ترفيهية، ومعامل تدريب على مهارات عملية، مثل استخدام الحاسوب، والحلاقة، وصناعة القهوة، وغيرها من المهارات التي تهدف إلى خلق بدائل واقعية، تساعد النزيل على الاستقرار بعد الخروج.

تعلم مهارات الحاسوب داخل المركز عبدالله، أحد نزلاء المركز، يلفت إلى أن برنامج الأنشطة كان عنصرًا أساسيًا في تجربته العلاجية.

ويشير إلى أن الأنشطة الرياضية تحظى بإقبال خاص من النزلاء، لما تمنحه من تفريغ للضغط وتنظيم لليوم، قبل الانتقال إلى تعلّم مهارات عملية أخرى.

«الرياضة كانت البداية. بعدها تعلّمنا أشياء ثانية، مثل مهارات بسيطة نقدر نستخدمها في حياتنا. هذا خلاني نحس إن في بدائل حقيقية، وإن الوقت داخل البرنامج مش ضايع»

قاعة رياضية بالمركز

لكن الطريق لا يسير دائمًا في اتجاه واحد.

فارس، أحد النزلاء، يخوض تجربته العلاجية للمرة الثالثة. في المرتين السابقتين، خرج من المركز وهو يحمل نية الاستمرار، لكنه انتكس بعد فترة قصيرة. ويعزو ذلك إلى العودة إلى البيئة نفسها، وضغوط العائلة، وصعوبة الحصول على عمل، إضافة إلى النظرة الاجتماعية التي لاحقته، وجعلت الاستمرار أكثر تعقيدًا، وأعادته خطوات إلى الوراء.

علاج نفسي فردي داخل المركز

خارج أسوار المركز، تتضح صورة أوسع للمشكلة.

ويشير جمعة الناصري، مرشد اجتماعي وباحث في قضايا الشباب، إلى أن انتشار المخدرات في ليبيا لا يمكن فصله عن سنوات الحرب وعدم الاستقرار. ويوضح أن فترات الصراع سهّلت دخول مختلف أنواع المخدرات، وخلقت بيئة استغلالية استهدفت الشباب بشكل مباشر.

كما يضيف أن بعض الجهات لجأت إلى تقديم المواد المخدرة مجانًا، بهدف استقطاب الشباب، وإبقائهم في دائرة السيطرة، وأحيانًا لدفعهم نحو جبهات القتال.

ولا يتوقف التحدي عند مرحلة التعاطي فقط.

فبعد التوقف، يواجه كثير من المتعافين نظرة اجتماعية دونية، تُقيّد فرص اندماجهم، وتُبقي تجربتهم حاضرة في تعامل المجتمع معهم، ما قد يجعل التعافي مسارًا هشًا، قابلًا للانتكاس.

داخل المركز، تحاول البرامج التأهيلية التعامل مع هذه التعقيدات عبر تفاصيل يومية دقيقة: الالتزام بالوقت، المشاركة في الأنشطة، العمل ضمن مجموعات، وتعلّم مهارات جديدة، كخطوات صغيرة لإعادة بناء الثقة بالنفس.

وخارج هذا الإطار، يبقى الانتظار جزءًا من حياة أشخاص مثل سالم.

فالقرار اتُّخذ بعد محاولات لم تنجح، لكن الزمن، حين يطول، لا يكون محايدًا دائمًا، خاصة في غياب مسارات داعمة قادرة على احتواء المرحلة.

سالم يعرف أن اسمه موجود على القائمة. ويعرف أيضًا أن الانتظار لا يعني التوقف، ولا يعني الاستسلام. وقد يختبر القدرة على الاستمرار أكثر مما يختبر الرغبة نفسها.هي مساحة غير واضحة المعالم، لا تُقاس بالأيام، بل بما يتبقى من قدرة على الثبات قبل أن يحين الدور.

تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :