- أ :: المهدي يوسف كاجيجي
(هذه قصاصات لكتابات صحفية، مضى على نشرها ما يقارب نصف قرن، تغيرت فيها الدنيا. نعيد النشر بعد اختزال النص الأصلي، بما يتناسب وفكر جيل الأحفاد الرقمي، ليعرفوا كيف كان زماننا.) المهدي يوسف كاجيجيإلى من يهمه الأمر ؟ .. كحي .. وتنفسي .. وكيف حال الصحة؟مَلاريا.. وعقارب.. وأوبئة في الجنوب.. وتصريحات في الشمالالحديث عن الصحة في الجنوب، حديث مضحك ومؤلم في آن واحد. ونحن إذا استثنينا مستشفى “سبها” ومستشفى “اوباري” وبعض من المستوصفات الموجودة في المتصرفيات، فإننا نجزم أن الجنوب يفتقر إلى أبسط أنواع الخدمات الصحية، التي يشرف عليها مجموعة من الأطباء الصينيين، وهى الجنسية الوحيدة التي قبلت التعاقد للعمل في الجنوب. وأنا هنا لا أطعن في كفاءتهم، لأنهم عملوا في حدود الإمكانيات التي وفرتها لهم وزارة الصحة. ولكن المشكلة هي التواصل بين الدكتور والمريض، فمن المعروف أن الصينين لا يجيدون سوى لغتهم، ولذلك فطريقة التخاطب الوحيدة بين المريض والطبيب هي لغة الإشارة واسئلة محدودة بلغة عربية ركيكة ومضحكة: كحي.. وتنفسي.. شنو يوجع فيك؟ كيف حال الصحة؟ تنتهى بتقديم “شكارة” من الأدوية والأطباء كرماء، فلقد عانيت من حالة امساك فذهبت إلى مستشفى سبها، فقدم لي الدكتور خمسة أنواع من الحبوب متعددة الألوان.لدغة العقرب والقبرالحديث عن الصحة في الجنوب، حديث مضحك ومؤلم في آن واحد. حكايات طويلة تروى عن مستشفى سبها المركزي، الذي اشتهر بندرة أطبائه، وكثرة ممرضاته، وسوء خدماته. مستشفى الداخل فيه مفقود والخارج منها مولود، فشل اطباؤه في انقاذ المصابين بلدغة عقرب، وهي مشكل تنشط في شهور الصيف. نجح في علاجها الاطباء الفرنسيون ابان التواجد العسكري الفرنسي، باستخدام امصال تم تركيبها محليا من واقع البيئة والمكان. كانت لدغة العقرب مشكلة سريعة الحل، ولكنهم ألان يقولوا في الجنوب :أن من يلدغه عقرب عليه الإسرع في حفر قبره.رحلة عذابالحديث عن الصحة في الجنوب، حديث مضحك ومؤلم في آن واحد. فالجنوب يعاني من قلة الأطباء وخاصة في القرى والمدن الصغيرة. في متصرفية الشاطئ يعمل طبيبان فقط ،وعلى المرضى من سكان القري المجاورة الانتقال اليها فمثلا من “ادري” يقطع المريض مائة كيلو متر للوصول إلى مستوصف براك الذى تصر وزارة الصحة على تسميته مستشفى، وتسعين كيلو مترا لسكان “ونزريك” وعلى مرضى “برقن” و “قطة” و”محروقة” و”اقار ” وقيرة ” و”اشكده” أن يقطعوا ثمانية كيلومترات مشيا على الاقدام. الوصول إلى براك ليس هو نهاية المشكل، لان الأطباء في براك لا تتعدى إمكانياتهم الكشف على المريض، وصرف الدواء وإذا احتاج المريض لأجراء عملية جراحية بسيطة فعليه أن يقطع سبعين كيلومترا، عبر صحراء ” الزلاف ” ورمالها المتحركة، للوصول إلى سبها، وفى العمليات المعقدة يتم الترحيل إلى طرابلس. رحلة طويلة متعددة المراحل على المريض أن يقطعها وهو وحظه.ناموس بائسالحديث عن الصحة في الجنوب، حديث مضحك ومؤلم في آن واحد. الناموس ظاهرة عامة في كل قرى الجنوب، ولقد نجح في القضاء عليه إبان حقبتي الاستعمار الفرنسي وولاية فزان. ولكنه الآن أصبح أكثر شراسة وخطورة على صحة السكان، وخبراء الصحة مصرون على أنه ناموس مسالم بائس ليس لديه ما يمتصه فسكان الجنوب معظمهم مصاب بأمراض سوء التغذية والانيميا وفقر الدم الحادة ولذا ليس لديه دماء يمتصها ويعيش عليها.طفولة تشيخ قبل ولادتهاالحديث عن الصحة في الجنوب، حديث مؤلم ومضحك في آن واحد. لو استثنينا مستشفى سبها سيء السمعة، ومستشفى اوباري وبعض العيادات الموجودة بالمتصرفيات، والتي أطلقت عليها وزارة الصحة اسم مستشفيات، فإن عشرات من القرى والالاف من أبناء شعبنا، يفتقدون إلى أبسط الخدمات الصحية. طفولة تشيخ قبل أن تولد، تقتلها الامراض والاوبئة والانيميا وسوء التغذية، والمسؤولون في وزارة الصحة ليس لديهم سوى لعبة التصريحات والزيارات الاستعراضية المفاجئة، ولم يفكروا ولو يوما في ترك مكاتبهم على “الشطيطة” والالتفات لما يجري في الجنوب، وترك المواطن يواجه مشاكله وحيدا مهملًا.الحديث عن الصحة في الجنوب، حديث مضحك ومؤلم في آن واحد. وقضية لن تحلها زيارة مفاجئة لمسؤول، أو كتابة تحقيق صحفي، وما يطالب به اهلنا في الجنوب، هو حق من حقوق المواطنة ومطلب بالمساوات مع الشقيق الساكن في الشمال، وصرخة نتوجه بها إلى من يهمه الأمر؟ . المهدي كاجيجي. (جريدة الحرية 13/6/1969م) وبعد مرور 51 عاما وفى زمن “الكورونا” نعيد طرح السؤال على اهلنا فى الجنوب: كيف حال الصحة ؟• الصورة: التحقيق الصحفى كما نشر على صفحات الحرية، منذ أكثر من نصف قرن، من منشورات صفحة المهندس هشام على حُسْنين، من الأرشيف النادر لوالده الوزير والدبلوماسي والسياسي والمؤرخ والمترجم الأستاذ على الصادق حُسْنين، رحمه الله.