المهدي يوسف كاجيجي
وصلت سيارة المراسم التابعة لأمانة الخارجية، في العهد الجماهيري، إلى سوق الذهب في طرابلس، وعند فتح الباب خرج منها شخص أفريقي أنيق الملبس، قدمه السائق لصاحب المتجر علي اعتبار أنه وزير أفريقي ضيف.
كان من المفروض أن تحضر معه زوجته، لاختيار الهدية. ولكن لظرف مرضي تخلفت في الفندق. قدم صاحب المحل ما لديه من عروض ومشغولات ذهبية. ولكن الضيف قابل ذلك بصمت فتدخل السائق،واقترح نقل بعض المشغولات للفندق، لتختار الزوجة ما تحب، على أن يبقي الوزير في الانتظار. مضي الوقت ،وتأخرت عودة السائق بدأ الوزير يتململ، وفجأة انتصب واقفا بشكل عصبي، رافعا كفيه إلى أعلى في شكل رقم عشرة، وصرخ نبي نروح وين (الحشرة ). لم يفهم أحد ما يريد. وبعد حوار ونقاش طويل، استخدمت فيها كل اللغات والإشارات، اكتشف التاجر أنه كان ضحية لعملية نصب ،وأن الوزير لم يكن سوى عامل أفريقي تعيس، التقط من على الرصيف وتم الاتفاق معه على مبلغ ( حشرة ) أي عشرة دنانير فقط، مقابل أن يرتدي البدلة ويركب السيارة ويشارك ككومبارس في مسرحية كشاهد ما شفش حاجة مع الاعتذار للمسرحية الشهيرة.
فزان الوطن البديل، هذه الصورة هي التي يختزنها العقل الليبي عن الأفارقة، ويطلق عليهم ضاحكا “الجيرا..جيرا “. في حقبة فبراير اختلف الأمر. غابت الدولة، وانهارت الحدود الجنوبية، تحت أقدام جحافل البطون الجائعة، القادمة من دول الجوار ، والتي كانت ولازالت تأتي في شكل موجات من الهجرة غير الشرعية، الحالمة بالوصول إلى الفردوس الأوروبي، تعساء من مختلف الأعمار ساقتهم أقدارهم ، للوقوع فريسة بين أيدي لا ترحم. فأكلنا جهدهم، وشربنا عرقهم، ثمنا لشحنهم على قوارب الموت نحو المجهول. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد،فلقد تم إقحامهم وإشراكهم في صراعاتنا وجندنا البعض منهم كمرتزقة وقوة داعمة لميليشياتنا العسكرية المتناحرة على بسط نفوذها. وتلك كانت هي الخطيئة الكبرى. لقد أعمتنا أطماعنا وكراهيتنا لبعضنا البعض فلم ندرك أن الزمن قد تغير من حولنا، وأن ذلك الأفريقي الذي كنّا نراه بعين التحقير والازدراء وأسقطنا عليه عقدنا العنصرية البغيضة لم يعد ذلك ” الجيراجيرا ” أو “الشيشباني” الساذج. لقد صقلته التجارب المريرة الذليلة التي عاشها بيننا، فتعرف على مناطق ضعفنا. وعندما دخلنا في حالة الغيبوبة، وفقدنا البصر والبصيرة، غاب علينا أنه ينتمي ويتبع بولائه لوطنه، وما يربطه بِنَا لا يتعدي الحاجة ولقمة العيش. ونسينا أن هذه الأوطان الفقيرة نرتبط معها بحدود مشتركة، ولها مصالحها وأطماعها أيضا.في نفس الوقت انشغلنا بأطماعنا وصراعاتنا ،وأهملنا الجنوب ولَم ندرك إلا متأخرا جدا ما جرى من تغيرات للتركيبة السكانية وموازين القوى، التي أصبحت فيها السيطرة الكاملة للعنصر الأجنبي المسلح ،الذي يواصل النزوح والاستيطان، وتتزايد أعداده بشكل مخيف. بينما أهلنا في الجنوب يفرون هربا إلى الشمال. ويقال إن ضاحية طرابلس ” خلة الفرجان ” تغير اسمها إلى ” خلة فزان ” وتبعا للإحصائيات الأخيرة، فإن عدد المهاجرين المتواجدين علي الأرض الليبية يفوق المليون مهاجر. ونحن نجزم أن هذا الرقم أقل بكثير من الرقم الحقيقي، إضافة إلي أن الملف الليبي بشأن الهجرة والتعامل مع المهاجرين سيء السمعة، ومحتوياته بها الكثير من الأوراق الضاغطة ، تكفي لتركيعنا بقبول السيناريو المقترح والمتفق عليه، من قبل القوى الإقليمية والدولية، والتي تري فيه تبعا لمصالحها، أن الجنوب الليبي المترامي الأطراف والغني بالثروات هو الحل الأمثل، لإعادة التوطين للمهاجرين المتواجدين في البلدان الأوروبية، إضافة إلى القادمين من النازحين الجدد .وكما يقول المثل : ” أطرق حديدك وهو ساخن ” وبالتالي فكل الظروف مواتية الآن. الدولة الليبية غائبة عن الوعي، وأهلها مشغولون بصراعاتهم وفِي حالة كاملة من الضياع والتمزق والتشرذم والضعف .وبالتالي فإن تم ذبحها فلن يبكي عليها أحد.
أم درمان الليبية !
و إلى أهلنا في الشمال الليبي، واصلوا صراعاتكم، وتمتعوا بشرب “المكياتا ” والشاهي الأخضر ،ولكن لا تفرحوا كثيرا ، فذلك لن يدوم طويلا ، فسبها التي كانت عاصمة للجنوب الزاهر، تمركزت بها القوى الغازية وانطلقت فيها المعارك ،وأيام قليلة سترفع فيها الأعلام المنتصرة، وهي قطعا ليست أعلامكم. والحدود الإدارية للإقليم الجديد ،باسمه الجديد لن تتوقف عند جبل بن عريف، بل الهدف غير النهائي هو مدينة سرت ،حيث الميناء البحري للإقليم الجديد كما أعلن من قبل. فالبشائر بدأت في منطقة الجفرة، التي لا تبعد أكثر من 250 كيلو مترا عن الساحل ،ولعلمكم فمن يحكمها الآن ويسيطر عليها ميليشيا مسلحة تنتمي لواحدة من دول الجوار الجنوبي، وتتبع وتتقاضى مرتباتها من واحدة من حكوماتنا الليبية الرشيدة. في الجفرة عدد المهاجرين وأكواخهم وزرائبهم تتزايد، وتتطور إلي قري بمرافقها ومتاجرها من أشهرها “قرية أم درمان” التي أصبحت ضاحية لمدينة هون. وهي قرى مقصور دخولها على العنصر الأفريقي، وميليشياته المسلحة، ومحظورة على غيرهم، أكواخ وزرائب ستكبر وتمتد وتتورم ،وفِي يوم مشؤوم ستأكل كل شيء ،بما فيه شمالكم السعيد.