المهدي يوسف كاجيجي
في زمن الكورونا، والتباعد الاجتماعي، والحجر الاختياري. وبعد أن اصبحت شيخاً يجتر أيامه في حكايات معادة بشكل يدعو إلى الملل، وجدت أنه ليس هناك افضل من الأخذ بنصيحة الشاعر ابي الطيب المتنبئ القائل: [ أعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ *:* وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ ] وكانت فرصة لكتب اشتريتها او اهديت لي ولم أقرأها، وكتب قرأتها وتحتاج لإعادة التأمل، وخاصة الكتب التاريخية، بحثا عن جواب يؤرقني ويحيرني : ماذا فعلنا بأنفسنا ؟ ولماذا؟
رحلتَانِ عَبْر ليبيَا
الكتاب من منشورات دار الفرجاني، عن رحلة الرحالة الالماني “فريدريك هورنمان” من القاهرة إلى مرزق 1797 – 1798، ورحلة ورسائل البريطاني الرائد ألكسندر جوردون لينج 1824 – 1826. كتاب ممتع، يحتاج قراءة متأنية، والمتأمل في الاحداث والوقائع التي يفصلها عنا حوالي قرنين من الزمان، سيلتبس عليه الأمر للتشابه المتطابق لما جرى ولا يزال يجرى، من انتشار ثقافة الخطف والنهب والسلب والتعصب الجاهل، وصراع المصالح بين القناصل الاجانب وتمدد نفوذهم. احداِث وقعت في حقبة كان السفر فيها من طرابلس إلى مصراته يستغرق أكثر من اسبوع، وعندما نعيد قراءتها سنشعر وكأنها جرت اليوم في عصرنا الرقمي.
البريطاني الرائد “ألكسندر جوردون لينج” جاء إلى طرابلس ليقوم برحلة هدفها المعلن الوصول إلى تمبكتو على نهر النيجر، عبر طرق القوافل المتجهة إلى مرزق وغدامس، ومنها إلى توت في الجزائر، قام فيها بتسجيل كل الملاحظات والمعلومات الممكنة، عن المكان وسكانه. من المعروف أن الهدف الحقيقي لهؤلاء الرحالة هو تحقيق أطماع استعمارية بأفريقيا، ولقد دفع لينج عمره نتيجة الصراع البريطاني الفرنسي في القارة السوداء. أعجب لينج بمدينة غدامس واهلها واعتبرها المدينة الاكثر تقدما والاكثر ثراء واعتبر أن ذلك بفضل حكمة أهلها وهذا ما انقله لكم نصا.
الوصول إلى غدامس
[بعد ما عانيناه من عطش، كانت شفاهنا تجف مباشرة بعد تناول أي قدر من الماء، لما لاقيناه من ألم الرياح الشرقية اللاذعة الحرارة طيلة اسبوعين. وبعد أن تجنبنا شر عصابة من قطاع الطرق من مائة وثلاثين فارسا من الجبل كانوا يترقبون وصولنا. لمحنا غدامس المدينة التي طال شوقنا اليها، وكانت اشبه بجزيرة في المحيط، تنتصب في سهل واسع قاحل، تكسوها حلَة خضراء من أشجار النخيل، وجاءت جماهير من الناس جيدة الملبس لتحيتنا وتهنئتنا بالسلامة، وكان الاستقبال حاراً وكريماً ومهيباً. تبدو غدامس مدينة واضحة القدم، وقد قال عنها ” ليو افريكانوس “بأنها مركز تجاري، وتوضح كثير من السجلات بأنها مكان تتوقف عنده القوافل عابرة الصحراء، للراحة والتزود بالماء منذ ثلاثة آلاف سنة. ولا يهتم أهل غدامس كثيرا بأمر الدفاع عن المدينة، لأن الدفاع يتطلب وضعا خاصا، فغدامس وسط صحراء واسعة، لا ماء فيها ولا غذاء، لذا يعتمد أهلها في حماية أنفسهم من هجمات أي مغير على نظام وشكل البناء الداخلي للمدينة، الذي يتميز بالتصاق البيوت وشبكة الشوارع المعقدة، التي يتيه فيها المرء ولا يستطيع التحرك.]
مدينة تدار بحكمة اهلها
[رغم قلة الإنتاج الزراعي من التمور، مقارنة بالواحات الأخرى كمنطقة الشاطئ، فإن أهلها أيسر حالاً واموالاً من أي بلد آخر بأفريقيا. فهم يثابرون في البحث عن المواد والسلع التي تجود بها بلادهم، وهم مهرة في تجارة المقايضة، الأمر الذي بلغ بهم درجة عالية يشهد لهم بها الغير. والواقع أنهم عقلاء جداً لما اكتسبوه من حرفة التجارة، حتى انهم يفضلون الخضوع بدفع ضرائب سنوية للباشا على إطلاق رصاصة واحدة في حرب معه. وكذلك الشأن مع القبائل العربية والطوارق، الذين يغيرون على غدامس وينهبونها. والواقع أن أهل غدامس يشعرون تماما أن الحرب تعنى حرمانهم من جميع المزايا التجارية فيتحملون كل ذلك، ويدفعون ضريبة عبورهم الصحراء، وينقذون جمالهم بدفع ضريبة معينة، ويظلون مع ذلك اغنياء. وهذه السياسة اقنعتهم بدفع مبلغ ثلاثين ألف مثقال لباشا طرابلس، بدلاً من تحطيم الجيش الذى أرسله لطلب تلك الضريبة، رغم أن ذلك الجيش وصل إلى غدامس في حالة يرثي لها من العطش، وكان يمكن ابادته في يوم أو يومين، لو لم يعمد شيخ غدامس إلى قطع إحدى القنوات وتحويل مائها للجيش، وقبل أن يفعل ذلك قام الكثير من جنود الباشا بمقايضة بنادقهم مقابل جرعة من الماء، وبالرغم من قيام غدامس بدفع الجزية لعرب الجبل والطوارق والباشا في طرابلس فإن اهلها لا يعترفون إلا بسيادة الباشا وهذا تصرف حكيم، لأنهم بذلك قاموا بتامين طرق تجارتهم إلى بورنو والسودان التي تخضع لسيطرة الباشا. ]
غدامس .. الأسرة الواحدة
[فى غدامس تبدو النساء فى منزلة أفضل مما تتمتع به بقية النساء فى أفريقيا ويحظين بمنزلة عالية وتقدير كبير. والملاحظ أيضا أن غدامس كلها تبدو كأسرة واحدة كبيرة.]
من غدامس.. درسا فى الانسانية
[بعيدا عن مساكن الأحياء، لقد لاحظنا مقدار احترام المسلمين لأرواح موتاهم، ولكنني لم أرَ مثل هذا الاحترام كما رايته في غدامس، حيث يوجد لأفقر الناس قبر مناسب، يميز بحجر تذكاري، يعطي المكان كله شكلًا معماريًا جميلًا. إننا نستطيع دون الحد من قدرنا أن نحذو حذو المسلمين، وأن نعلم أنفسنا درساً في الانسانية التي هي اساس العقيدة. ذلك لأن مقابرنا تتميز إما بالبرودة التي تنعكس على شعور الأحياء، أو بالفخامة التي لا تكرم الميت بل تفضح غرور الأحياء، يا للفرق بين ذلك وبين مقابر المسلمين الهادئة الرزينة المظهر التي يزورها الاهل والأصدقاء لأنهم هنا لا ينسون الميت، مع آخر حفنة من التراب التي تلقى على قبره، بل ينظرون للمكان بإجلال واحترام. ما ابعد الفرق بين المشاعر التي يبعثها منظر هذا المكان عندنا وعند المسلمين. فهذه المشاعر عندهم تزيل الكثير من مخاوف الموت، وتحطم شرور الانسان ذي الإحساس الديني المتبلد.] انتهي.
سماحة الابتسامة
في مدرسة سبها المركزية في الجنوب الليبي، وفى منتصف الخمسينات من القرن المنصرم، كان أستاذنا في اللغة العربية عبد السلام سنان رحمه الله يطلق لقب “المرابطين” أي” أولياء الله” على زملائنا القادمين من غدامس، لما يتمتعون به من دماثة الخلق، وبشاشة المحيا، والمسحة الصوفية التي تعتلي وجوههم. في مرحلة الصبا لم أكن اعرف تفسيرا لذلك، في شيخوختي أدركت أن الغدامسي الذي اتفقنا جميعا على انه “طيب”، هو نتاج انصهار حضارات عدة، وثقافات مختلفة، توالت على المكان، ومنحت ساكنيه هذا التميز بتوارث خاصية فريدة، تعتمد على تقبل القادم وإعادة تشكيلها ببصمة المكان، أو ما يطلق عليهم (الغدامسية) وهذا هو سر ما نراه من سماحة الابتسامة لديهم …. فيا أهلنا في غدامس لا تنسونا من الدعاء.