شريفة السيد
يوم ضربتني أمي لأنني تأخرت في المكتبة / شريفة السيد الجزء (1)
بين دار العلوم و دار الكتب ذكرياتي مع الكتب والدوريات
________________________________
كنت طالبة بكلية دار العلوم،
وأثناء البحث العلمي الذي كان يكلفنا به الأساتذة الأجلاء، كنت أذهب إلى قسم الدوريات بدار الكتب والوثائق القومية.. باعتبارها قريبة من بيت العائلة، مسافة محطة واحدة، كنت أمشيها بكل رحابة صدر وقت العودة مساء. .
في القاعة ،، أستخرج أولا رقم ورمز الكتاب أو المجلة أو الجريدة التي يُتوقع أن يكون نُشر فيها ما يخص موضوع البحث ، بحسب التواريخ التي تم رصدها مسبقا.
وأنتظر… تمر الدقائق ثقيلة، حتى يأتي الموظف من المخزن ، حاملا أعداد الدورية كاملة أو أجزاءً منها … أسأله بلهفة : والباقي …؟
فيقول لي : في الترميم ……!
أعكف على الدورية هذه أو تلك أو الكتب التي وصلتني عكوف الباحث النهم، أقرأ وأدون الملاحظات في أجندة خاصة ( فممنوع منعا باتا وضع أي خطوط أو كتابة تعليقات بأي نوع من أنواع الأقلام على صفحات الكتب والدوريات، حتىٰ لو كان القلم الرصاص؛ حفاظا عليها من الهلاك).
فكنت أكتب ما شئت بخط يدي في أجندتي، وأصور ما يمكن تصويره..
أرى بجواري وحولي طلابا كثيرين، من كبار السن، (أنا الوحيدة وعدد قليل جدا من الشباب.. نحيفة الجسد، شعري طويل منسدل على ظهري. فأضمه للوراء كذيل حصان استعدادا للمعركة)، أنظر حولي مرة أخرى، أجد باحثين وباحثات، معظمهم يرتدون نظارات نظر غليظة، ما يدل على ضعف البصر لكثرة القراءة، وقد ابيض الشعر فوق رؤوسهم، وملابسهم بسيطة، يحملون معهم (باكو بسكويت) يسد الجوع وقت اللزوم ، لأن الأمر سيطول، والوقت هناك لا يمكن أن تشعر به، الوقت يمر هادئا لطيفا سريعا، وفجأة يدق جرس التنبيه؛ معلنا (أن الساعة الآن السابعة مساء . حان وقت إغلاق القاعة). فنغضب ونتذمر،، لكننا نمضي مضطرين، على أمل العودة غدا….!!
كنت كلما نظرت لمن حولي من هؤلاء العاكفين على الكتب، أزداد شغفا للقراءة، وأزداد تحملا للجوع، ويزداد عقلي توهجا وطلبا للاستزادة،
أعود يوميا من دار العلوم بالمبتديان إلى دار الكتب كورنيش النيل محطة الرملة، قبيل روض الفرج موطني الأحب، أكرر نفس الشيء، وأوصي الموظف ألا يعيد المجلدات للمخازن، لكي لا نضيع وقتنا في استخراجها كل يوم.
وعندما أعود في اليوم التالي كنت أجد المجلدات على نفس الطاولة وأمام الكرسي الخاص بي، وكأنني حجزت ذلك المكان على اسمي مدى الحياة. تنفرج أساريري، وأفرح كالأطفال، وألمس الكتب كأم عثرت على ابنها المفقود. أبتسم لها، وأضمها بحنان، وأراها تبادلني نفس الابتسامة ونفس الحنان.
هل كانت الكتب تفرح لزيارتي..؟؟
لكأنها وجدت معشوقها المتيم بها …!!
هكذا شعرت…!
كانت رائحة المكان تستوقفني، رائحة الكتب تستفزني ، يروق لي لون الورق، تواريخ الطبعات، دور الطباعة، وأسماء أصحابها.
المقدمة والفهرس أول ما يمكنني قراءته، للاختيار الدقيق ( من أين أبدأ ) لو كان الكتاب ضخما.
كنت شغوفة بقراءة مقدمات الكتب، لأنها تضع يدي على مفاتيح الكتاب، ورأي الناشر أحيانا، وفكر المؤلف، وبعض ملامحه، كنت أرى بالفعل ملامح المؤلف في المقدمة، وكأنني عاصرته وجلست معه.
أتذكر أنني كتبت بخط يدي في أجندة خاصة أجزاء كاملة من ألف ليلة وليلة، وفصولا كاملة من أعمال شكسبير ، وأرسطو ، وغيرهما. وأحتفظ بها للان. بخطوط ملونة بين الأزرق والأحمر والأسود. للتمييز بين العناوين والفقرات.
لكأنني كنت أتعبد في محراب العلم.
يقشعر جسدي من بعض العبارات، ويحمر وجهي خجلا من بعض الفقرات، وتسيل دموعي مع مشاهد في بعض الروايات، أتنفس الحروف هواءً، وأتجرَّع الجُمل الأدبية شرابا حلو المذاق، وأحس بأجواء النصوص، أشعر بالبرد إذا لزم الأمر، ويصفعني صهد حرارة الشمس قبل أن أنتهي من قراءة فصل ما . أعيش مع الكاتب لحظات فرحه وآلامه وأوجاعه. أشاركه حتى في خياله الجامح، فأذهب معه إلى الحانات وأتذوق الخمر في كؤوس الغانيات.
هل كنت مجنونة إلى هذا الحد ..؟
ما كنت أنظر في الساعة الرجالي الضخمة التي كنت أرتديها بيدي اليمنى_ لا اليسرى كما يرتديها الآخرون_( ساعة أبي ماركة روليكس، باتنين مينا) فلا أعرف كم مضى من الوقت، ولا ما المتبقي منه.
وفي يوم من تلك الأيام تأخرت عن موعد العودة للمنزل، فما كان من أمي إلا أن ضربتني كي لا أكرر التأخير خاصة أيام الشتاء إذ يظلم مبكرا.
حاولت أن أشرح لها الموقف، لكنها لا تريد، فاستوقفها أبي بحنانه المعهود ورقة قلبه وعقله الواعي قائلا:
( سيبيها تعمل اللي هيَّ عايزاه ،، ولو اعترضتي هازعلك.. يا ام أشرف…!!! )