ملحة لقاء

ملحة لقاء

بقلم :: عابد الفيتوري 

اشياء وأشياء لا حصر لها تتقاذفني .. مثخنة بالحرقة وجمر الواقع .. وبالضرورة الغاشمة العمياء .. ذات يوم .. وكنت هائم على وجهي .. والصحراء ملاذ الحزانى .. والزهاد الحيارى .. توارت معالم اجمات النخيل .. واختفت جلبة القرية والناس .. الرمل الناعم على مد النظر .. تسرب العطش والجوع ينهش احشائي .. انهك قواي .. وهززت راسي بقرف .. وتمتمت الشفاه .. انه الجوع والعطش .. انياب الصحراء .. وأعادت السؤال القديم .. أليس خيار التوحد بالصحراء انتحار اخر ؟ ..
اهصر بين اصابعي حفنة أمل .. ولمحت مغارة حضن الكهف .. وتمتمت الشفاه ثانية .. يا لروعة المأوى .. كان كهفا عاليا شامخا .. واستأنفت الصعود .. واقتربت من بلوغ المغارة .. فجأة .. اخترقت جدار الصمت نغمة رطبة .. شجية عذبة .. ابهجتني .. وأرعبتني في آن .. مثقلة بجرس البشر .. حدقت النظر .. يا إلهي .. وسرت رعشة في عروقي .. فتاة متفردة .. وسط هجير صحراء مقفرة .. تقطن مغارة .. اتراها زاهدة متوحدة .. اتراها لاجئة طريدة شريدة .. اتراها جنية الصحراء .. تسمرت مكاني برهة زمن .. أدركت جفوتي وترددي .. خجلي وتمهلي .. قالت بحروف رطبة .. على رسلك ايها الغريب المهاجر .. تعال اشرب شيئا من اللبن لترطب حلقك .. دنوت منها في حذر وذهول .. اقتربت اكثر وأكثر .. وتعثرت بحجر .. ادمى كاحلي .. برقت ملامح طيفها .. غصن البان .. وينع فتان .. وطراوة الخيزران .. سرحت عينياي قليلا .. بإمعان .. نظراتها الدافئة .. عيناها العسليان .. وجنتاها المتوردة .. جمالها الآسر .. بسرة عرجون .. جيدها .. طلتها .. فارعة كنخلة برني .. حورية الصحراء .. حورية الجن .. لا ادري .. وأوهام اخرى اشبه بالهذيان .. نهشت الصدر والكيان .. صهرت لبي .. خبلت عقلي .. فاظلم .. واتخذت قراري .. غضضت بصري .. وناولتني قدح اللبن .. شربت مريئا .. وناولتني اخر .. شكرت لها كرمها .. ودعتها .. ومضيت .. ولاحقتني بالسؤال : الى اين ايها العابر ؟
– على باب الله .. ابحث عن كهف يؤويني .. بلادي حروب .
– لا تبتئس كثيرا .. لكل منا وجعه .. انا الاخرى .. بلادي حروب وازمات .. وجماعات يقتلون جماعات .. واشتدت النزاعات .. والخصومات .. تركتهم .. مهجرين مشردين .. ولاجئين دائحين .. ومختطفين ونازحين .. فاض الجور والفجور .. الحرب الاهلية اعظم الشرور .. اعتزلتهم منذ زمن .. لكن اصغي اليّ قليلا .. اترى ذاك الجبل المتعامد .. حضنه الشرقي مغارة تلائمك .. ولا تجعل نفسك في عوز .. لدي تمر وماء .. يكفينا لشهور سواء .. ودعتها بآيات الثناء .. والمودة والإطراء .. ومضيت .. وكدت اتوارى .. وصفر حجر في الهواء .. سقط من اعلى قمة الجبل .. وأصابها .. هشم ضلعها ورأسها .. وأطلقت صرخة .. وطاح منديلها .. وانحل شعرها .. وأنسبل على كتفيها .. وسالت الدماء .. وغطت وجهها .. هرولت وهرعت .. اكاد اسعف نزفها .. ويزداد نزفا .. وخشيت سقوط حجر اخر .. اخذت بجناحيها .. وولجت بها المغارة .. اسندتها لفراشها .. حدجتني بنظرة ذابلة .. وقالت بحروف متلعثمة اسيرة .. وصيتها الاخيرة :
” عليك بنفسك .. ابني لك كوخا عند التبة .. واحفر لك بئرا عمق الوادي .. واروي الارض .. تنمو شجرة .. نخلة وطلحة .. وعشبة عقول .. ورثم ورسو وضمران .. وتصير غابة مخضبة الاركان .. عبقها زهرة النرجس والفل والزعفران .. وتفيض دورة الفلك كما كان .. وتنفر بذور العصر المطير .. ويعود الخصب القديم الوفير .. وتمطر سحابة .. وينساب نهر .. وتستمتع بخلوتك .. تناغي الفيلة والزراف .. وتناجي الغزلان والخراف .. وتستظل شجر الصفصاف .. وتكتب قصيدة بعمر كل الدهور والعصور .. الحياة تستدعي الحياة .. والحذر ان تقع وقعتي ..!! . ابتعد عن المغارات .. إياك .. إياك .. وابتلع الاهات .. وتناسى ما قد فات .. ونبش المواجع الموبقات .. واعلم .. ان النبل هو ان تغفر ” .
وحل صمت ثقيل طويل .. لا يسمع فيه سوى لهاث انفاس الضحية .. واسبلت عينيها .. وماتت .. الوداع الابدي .. هذه الكلمة التي لا دواء لها .. واغرورقت عيناي بالدموع .. درفت لوعة وزفرة .. واجتاحتني حسرة .. وجال فكري بتأبينها .. حفرت القبر .. وواريتها الثرى .. وانهال التراب على التراب كما ترى .. وخططت على شاهد قبرها .. ” هنا ترقد الفتاة الجميلة الحسناء .. حورية الصحراء .. عاشت زاهدة متفردة .. بمغار كهف منعزلة متوحدة .. حلمت بعودة العصر المطير .. والخصب الوفير .. بين قفر وهجير .. وصحراء جرداء .. عابسة عجفاء ” .. ومضى الوقت مسموما بروائح الموت والجثث والفناء .. والنهايات المرعبة الحمقاء .. واسترسلت الذكريات .. تنبش ما قد فات .. الهجر والبعاد .. والمسافات والزاد .. وبراثن اليأس .. والقرية والناس .. حركاتهم .. سكناتهم .. انينهم .. توجعهم .. حروبهم .. وولولة امهات .. تكالى مكلومات .. وايتام حفاة عراة .. وجلادين قساة .. وجبروت وطغاة .. وهدم البنيان .. وتفترق الخلان .. ووطن اكوام حطام .. مدافن والآم .. وفتاة هدها الترحال .. تشكو تقلبات الحال .. والغربة في البلاد .. وجور العباد .. اخترمتها الليالي ومر النهار .. وصارت ثالثة التراب والأحجار .. وحجرا اعمى اصم .. سقط من اعالي القمم .. خطف روحها وانتقم .. ماتت حالمة .. واريتها الثرى .. اتون الصحراء .

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :