من تقديم  كتاب صالح الدمس “الجرح يبرأ”

من تقديم  كتاب صالح الدمس “الجرح يبرأ”

 نجوى شقرون

..”منذ الفصل الأول بل من الصفحة الأولى يضعنا الكاتب أمام مشهد مأساوي قاتم اجتمعت فيه كل مظاهر الفقر المادي و أسباب البؤس المعنوي ، و من العناصر التي تُكوّن المشهدَ أو اللوحة الأولى للكتاب عناصر طبيعية : وحشةُ الغروب ، الجو خريفي حزين ، يوم رصاصي كئيب داكن و عناصر أخرى جغرافية : ديار متعانقة منعزلة في أطراف القرية ” طوابي الهندي” ، الدجاج و الاوزّ يرتع في البرك الوسخة …وسط هذه الأجواء الحزينة رسم الراوي صورة طفل وحيد نحيف يجلس بمفرده ناظرا إلى الأفق الرمادي. وقد أطلق على هذا الطفل صفة الفتى في إشارة صريحة و مباشرة إلى مظاهر التماثل بينه و بين الفتى الأول و نقصد طه حسين في كتاب الأيام فكلاهما ـ أي الفتى الأول طه حسين و الفتى الثاني أي الراوي في كتاب الجرح يبرأ ـ كلاهما يواجه مصاعب الحياة و قسوتها منذ الطفولة المبكرة دون أن يكون له أيّ سند أو حماية حتى من أقرب الناس إليه لذلك يُسند فتى “الجرح يبرأ ” رأسَه إلى عمود الكهرباء مُقارنا حالته ببقية أقرانه الذين آبوا إلى منازلهم ينعمون بالدفء العائلي و بصُنوف الأطعمة بينما تعاقبه الحياة فتقذف به في وضعية اجتماعية لا يحسد عليها .

هكذا كانت فاتحة الأحداث في سيرة ذاتية للكاتب صالح الدمس ، في الفصل الأول ” قبل البداية” ينجح الكاتب في شدنا إلى الأحداث, كما ينجح في كسب تعاطفنا و إشفاقنا على الفتى الذي كانه منذ أكثر من ستين سنة , و مازالت صورته و ملامحه راسخة في ذهنه . لم يتنكر له و لم يترفع عنه . إنه يحمل له كثيرا من مشاعر الشفقة و الحنوّ بل لقد كان أحيانا فخورا و سعيدا بقدرته على مواجهة صلف الحياة و غطرستها رغم ضعفه.

بين عطف الأمّ الفيّاض و قسوة الأب غير المسؤول نشأ الراوي الطفل نشأةً تشوبها الحيرة والتوتر و الخوف وكثير من الأسئلة أرّقته الليالي الطّوال و دفعت بع إلى التفكير في معنى الحياة و مفهوم الأبوة الذي لم يكن واضحا في ذهنه كلما قارن حاله بحال أقرانه .

في تقابل كليّ و تناقض تامّ مع صورة الأم جاءت صورة الأب تجسيدا و تصويرا لكل صفات الغلظة و القسوة و الإهمال . فهو لا يعرف ابنه الذي تخلى عنه رضيعا ابن ستة أشهر و لم يكن  يراه إلا مرة كل سنة بل مرة في السنتين أو الثلاث. لذلك كثيرا ما يصفه الراوي “بذلك الرجل الذي يقول الناس إنه أبوه “.و عذر الفتى واضح في ذلك فهو يعيش بعيدا عنه و لم يذق طعم العطف الأبوي و لا يعرف كنهه بل لا يحمل تجاهه سوى مشاعر الخوف والرهبة و يودّ لو كان له جناحان فيهرب منه و يعود إلى حضن أمه التي كانت ” كلما اشتدّ الزمان عليها ضمته إلى صدرها و تعمدت رسم ابتسامة على وجهها

**من وحي السيرة الذاتية**

هذه الرواية  توقظ فينا عدة أسئلة  من بينها السؤال عن مظاهر التباين والتطابق بين المَحكيّ أي بين ما جاء على لسان الراوي / الشخصية و بين ما عاشه فعلا الكاتب في الواقع . مما يثير قضية الصدق أو درجة الصدق فيما قصّه علينا من أحداث . إلى أي مدى استطاع الكاتب أن يعيد سرد قصة حياته بموضوعية وحياد ؟ وما هي علاقة الذاتيّ بالموضوعيّ في السيرة الذاتية؟ ذلك أننا نجد إشارات كثيرة إلى أحداث وطنية عاصرها الكاتب و قد نكتفي بمثال واحد هو سرده  لبعض أحداث حرب بنزرت بعد أن قرّر الزعيم بورقيبة إعلان الحرب على فرنسا و تأثير هذه الحرب على حياته و حياة أهله و قريته, كانتشار الفقر و انعدام ضروريات الحياة و توزيع الإعانات على الأهالي . هذه النقطة بالذات تستدعي ضرورة التساؤل عن التقاطع الذي يمكن ان يوجد بين السيرة الفردية و السيرة الجماعية ، خاصة أن أسلوب الكاتب قد تميز بالدقة في وصف عدة أماكن واقعية معروفة في بنزرت نذكر منها زاوية سيدي المسطاري و زاوية سيدي عبد القادر و مقام السيدة المنوبية و عين جرينة و غيرها كثير .

كما تُفرض علينا حيرةٌ عارمة حول أهداف الكاتب و غاياته من سرد قصة حياته ، ماذا أراد القاصّ صالح الدمس أن يقوله عبر الرواية ؟ لمَ كان التركيز عميقا و مُكثّفا على المآسي والجروح التي قالت أمه أنها ستبرأ لكنه أصرّ على عكس ذلك ؟ فهل كانت غايته التطهير الذاتي و التنفيس عن كُلوم الماضي ؟ أم قصد إلى محاسبة السجّان الذي كان يتمنّى لو كان أشد رحمةً بالصبي و بنفسه فيُجنبها الذلّ و الانكسار اللذين وصفهما الكاتب في نهاية فصل النهاية ؟ و ربما لم تكن له من غاية سوى الاعترافِ بفضل أمه مكية التي صوّرها رمزا للتضحية والصبر و الحنان الذي لا ينضب .

إن للسيرة الذاتية أهدافا كثيرة و لا ندري أيّها اختار الكاتب عن قصد أو عن غير قصد. فربما راوغ الفتى الكاتبَ و غفر لأبيه , فقد ذكر أنه عاد إليه مغتبطا شامخا و قد صار رجلا ذا بالٍ و له مرتب ينفق منه على أمه و أبيه و يشتري كل ما حرمته منه الأيام .

لا بدّ من الإقرار بأنّ الكاتب قد نجحَ في إلغاء كل الحواجز بينه و بين المتقبل وتجرّأ على نَشرِ حياته كتابا مفتوحا  بعد أن استعاد ذاكرته على الورق, علّه بهذه السيرة يُوفّرَ للقارئ ما يدفعه لخوض غمار الحياة مستمسكا بحقه في اختيار مصيره, وعلّه يكون  قدوةً تساعد القارئ على الوقوف في وجه العواصف و الأرزاء متسلحا بقوة الإيمان و دعوات الأمّ و لقاح العلم و الأدب .لقد نجح الكاتب مرّتين : نجح في كتابةِ قصةِ حياةٍ يتفاعل معها القارئ ويتعاطف, ونجح في الإفلات من قبضة القدر و بذلك نَجَا من الحياة بأُعجوبة

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :