- عمر الطاهر
من الركن الجنوب غربي للوطن ، من هذا البعد الشاسع حتى نهاية المسافة ، و من آخر متر تناساه الزمن .
من بين أحضان هذه المدينة الطيبون أهلها ، و البسطاء كما البساطة نفسها ، الحالمين أبدا ، بغدٍ يحمل البشرى و البشاشة .
الذين لم تزل مشاهد القتل و الدمار ترعبهم ، طيبون كالأطفال لم تزل الطيبة تسكن في قلوبهم ، و لا يزالون يصدقون بأن الليبيون إخوة ، و أنهم رحماء فيما بينهم .
و الذين لا يسألون الضيف من أي مدينة أو قبيلة ، و الذين يتسابقون في الخيرات ، و مغفرة من ربهم ، و يعتقدون في أهل الشمال المكرمات .
و الذين يصرون على التهليل في الأسحار و ليالٍ الجمع ، و يسهرون الليل مادحين نبيهم ليلة الميلاد ، و الذين يتملكهم الشغف بقدوم شهر رمضان ، يصلون التراويح طوعا عن بكرة أبيهم ، و يقرؤون القرآن في جماعات ، و لم تلوث كلمة ( بدعة ) مسامعهم ، و يتصدقون بالنعمة قليلها و كثبرها و ينفقون مما يحبون .
أنا لازلت بينهم غارقا في ذكريات المدينة القديمة ، تتناهى إلى مسامعي ، أصوات الأولاد و البنات العذبة الرقيقة ، تملأ الأزقة بالصلاة على النبي ، حتى تختفي في خفوت و انحسار ، حين تتفرق الجموع كل ليلة ، بعد إذن شيخ ( المحضرة ) بالانصراف لبيوتنا ، نحو نهايات الأزقة و مداخل البيوت ، ذات الأبواب و المزاليج العتيقة ، إلى انسدال ستر الغسق ، و انبعاث روائح البخور إذ تملأ الإرجاء بالقداسة و سماء المدينة ، و همهمة العجائز بالدعاء .
لا زالت مشاهد الدراويش تراودني ، في أساطير الجدات للأحفاد ، في همود الإنصات و سكون الليالي .
لا زالت رائحة لحاف أمي الذي توسدنيه كل ليلة ، تدغدغ مني شغاف الفؤاد ، و تحملني لعالم غارق في الفطرة و الطيبة و الطهور .
من هذه الصحراء الطاهرة النقية ، و التي لم تعد تخلو من الذئاب الغريبة ، من ذرى جبالها الشاهقات كأعناقنا المشرئبة تعانق العزة ، بالصبر على المكاره في زمان الجور و نكران الحقوق ، من الساسة و نواب الجنوب ، أساتذة العقوق ، فلا حسيب و لا نصيب ، إلا ما رحم ربي ، فهم كالنذر اليسير .
من هذا الركن الجنوب غربي من الوطن .
استمد العشق لكل حبة رمل ، و لكل الملامح ، و لكل ناطق بلهجة الوطن الليبي الأصل و السحنة و اللكنة ، و طيبة القلب حتى السذاجة ، و أقول : ( حلمي وطن ، تعشقه العذارى ، و يتغنى بحبه الأطفال ، و من ترابه يرسم الفلاح لوحته الجميلة ، حيث تراك عيوننا كل صباح ، برغم الحزن ، جميلا يا وطن ) .