- للشاعر الليبي مفتاح يوسف البركي /صلاح الدين راشد
القصيدة ( حشرجة مالحة لوردة عمياء ) للشاعر مفتاح يوسف البركي تنهض على لغة مشحونة بالرموز والدوال ، مغموسة في طيف الموت والغياب ، ومشدودة إلى ما وراء الوجود ، حيث يتناوب الجسد والروح بين جاذبية الفقد وإغواء الخلاص. النص يتنفس ببطء ، وكأنه يتهجّى هذيان وردة مسلوبة البصر ، وردة تُطارد مصيرها كطريدة عالقة في أوج العناق مع الفقد :
وردةٍ عمياء
كمثل الطريدة
في أوج عناق الفقد
تتأوه كأعشى مغشياً عليه
ترتجف من شوق الظلام
القادم من سُرة الخراب
تغُص برؤىً باهتة تتدلى من مقصلة الحياة .
بهذه الافتتاحية يضع البركي قارئه في مواجهة قاتمة ، حيث الحشرجة ليست مجرد صوت احتضار ، إنما استعارة لجسد يذوب في آخر لحظة ، يُنازع الحياة تحت مقصلة قدر لا فكاك منه . هذه العتمة التي تتنفس من رحم الخراب تُذكّرنا بالشاعر إليوت في الأرض الخراب ، حين يتحول الفراغ الروحي إلى استعارة كبرى عن عطش لا يروى ، وبودلير في أزهار الشر ، حيث العطر والموت والظلام يتجاورون في مشهد واحد ، فيتولد الجمال من قلب الخراب . وحين يتساءل الشاعر عبر النص :
كيف لها أن ترد نبوءة الموت
وهي تركض نحو مهابة الخلاص
الذي يلقي بآخر نفسٍ في عروق هذا الليل؟
فإنه يعيد إنتاج ثنائية الموت / الخلاص في صورة ملتبسة : الموت ليس نهاية بل مهابة ، والخلاص ليس نجاة بل انسحاب بطيء في شرايين الليل . هنا يقترب البركي من ريلكه في مراثي دوينو ، حيث يصبح الموت وجهاً آخر للحياة ، والفناء شرطاً للامتلاء . إننا أمام نص يتفتح على بعد صوفي ، حيث الانطفاء ليس موتاً بل ولادة أخرى .
ثم ينداح النص في نهر من الصور الكثيفة:
طوفان من الشعر
كان ينبغي لها خوض لُجتهِ
قبل أن ترسو سفن الدموع
على مرافيء الظمأ
قبل أن تفصل أشرعة الغرق
على مقاس خاصرة الموج.
الشعر يتحول هنا إلى طوفان ، والوردة مطالبة بعبوره قبل أن يتحقق الغرق . البحر قدرٌ وكتابة ومصير ، فيما الظمأ ميناء أخير . هذه الاستعارة الكونية تستدعي صورة بدر شاكر السياب في أنشودة المطر ، حين يصبح المطر علامة خلاص معلّق وجرحاً متجدداً . لكن عند الشاعر البركي ، المطر لا يغسل بل ينهك النبي ، والبحر لا يمنح الميناء بل يقيس الغرق على خاصرة الموج ، في مفارقة وجودية تذكّر أيضاً بمجازات أدونيس في تحويل الخراب إلى أفق شعري مفتوح ، حيث اللغة ذاتها تصبح مقصلة وملاذاً معاً . ويظهر الغيب في النص كفضاء معلق :
الغيب هو مفازة سرها
في دواليب الأحلام الصدئة
ونبياً يصدح بتراتيل مزنٍ
أضناه عويل المطر.
الغيب يتحول إلى صحراء متاهة ، إلى حلم صدئ ونبيّ ينوء من ثقل النداء . هنا يحضر صدى محمود درويش في أواخر قصائده ، حيث الغياب مرادف للحضور ، والعطر هو ذاكرة الخلود ، تماماً كما يقول درويش عن الورد الذي يجرحنا بالعطر
وعندما يتساءل البركي مرة أخرى :
من يضاهي هذه العتمة
التي تتمارى في هذا الفضاء؟
أترَاها مصيدة لغزلان الغرام
أم أنها نهاية قصيدةٍ لوردةٍ
سافر عطرها في مُهج العصافير؟
فهو يفتح النص على فضاء تأويلي شاسع : العتمة قد تكون مصيدة للحب ، أو نهاية قصيدة ذاتها ، حيث يتحول العطر إلى هجرة طيفية في دم العصافير . الوردة العمياء لا تنتهي ، بل تُهاجر في أرواح أخرى . وهنا ، تُذكرنا هذه النهاية بصوت علي الفزاني ، الذي جعل الموت في شعره معبراً نحو نوع آخر من الخلاص ، وجعل الفقد مصدراً لتوليد صور ممتلئة بالحياة . كما نلمح قرباً من تجارب ليبية أخرى مثل خالد درويش ، الذي صاغ الغياب كبصيرة داخلية تتجاوز حدود الواقع . ويُغلق النص على صورة صوفية بامتياز :
هكذا يكتوي الدراويش بأنفاس الورد
قبل أن ينام جرح العطر الشريد في مضاجعهم .
النهاية تختصر بنية القصيدة كلها : الحشرجة تتحول إلى أنفاس ورد ، والجرح العطري يخلد في مضاجع الدراويش . الفقد يتصاعد إلى مقام التجلي ، حيث لا يبقى من الوجود سوى أثر العطر ، أثر الغياب الذي يكتوي به العاشقون .
هذا المشهد يتقاطع مع تقاليد الشعر الصوفي العربي القديم ، لكنه يتجدد هنا بروح معاصرة تضع الشاعر مفتاح البركي في حوار مع ريلكه وبودلير وإليوت من جهة ، ومع السياب وأدونيس ودرويش والفزاني من جهة أخرى .
إنها قصيدة تتأرجح بين التراجيدي والصوفي ، بين الخراب والعطر ، بين موت يُستضاف كضيف أبدي وخلاص يتجلى كعطر شريد يهاجر في مهج العصافير. كما أن بنيتها الشعرية ليست خطية بل تتأسس على توالد الصور وتناسل الدوال ، مشدودة إلى نَفَس متقطع ، يشبه الحشرجة ذاتها . والمفارقة هنا أنها قصيدة عن وردة عمياء ، لكن عماها لم يكن نقصاً ، إنما باباً لبصيرة أخرى ، إلى إدراك لا يُرى إلا عبر العتمة ، ولا يُشم إلا عبر جرح يتضوع عطراً في مضاجع الأرواح .
ولو تتبعنا تحليل بنية هذه الميزة الشعرية نج بأنها تقوم على :
أولاً : – التصعيد الرمزي : من وردة عمياء ، إلى طوفان شعري ، إلى نبيّ منهك ، إلى عطر خالد . كل صورة تفتح على أخرى ، لتشكل سلماً وجودياً نحو التجلي .
ثانياً : – التنفس الإيقاعي : الجمل الشعرية قصيرة ، محمولة على هسيس داخلي أقرب إلى نَفَس متقطع ، وهو ما يجعل النص شبيها بالحشرجة ذاتها .
ثالثاً : – البنية التراجيدية – الصوفية : الفقد يُعاد إنتاجه كخلاص ، والانطفاء يُصاغ كولادة جديدة . القصيدة تتخذ من الموت معبراً إلى نوع آخر من الامتلاء .
رابعاً : – المفارقة الدلالية : الوردة عمياء لكنها ترى ببصيرة داخلية ؛ الحشرجة احتضار لكنها أيضاً أنفاس ورد ؛ المطر غزير لكنه لا يغسل شيئاً . هذه المفارقات تشكّل قلب البنية الشعرية .
خامساً : – الفضاء التأويلي المفتوح : النص لا يُغلق على معنى واحد ، بل يترك القارئ معلَّقاً بين مصيدة الغرام ونهاية القصيدة ، بين العتمة والعطر، وهو ما يضاعف من طاقته الرمزية .
بهذا ، فإن البنية الشعرية للقصيدة ليست مجرد إطار شكلي ، بل هي تجسيد مباشر لجوهر النص : الحشرجة التي تتحول إلى كتابة ، الخراب الذي يتضوع عطراً ، والموت الذي يُفضي إلى تجلٍّ .














