بقلم : بلقاسم المسلاتي
شُعور غريب سيطر على المنزل المتواضع ، شعور مزعج ، الجميع كان يُمثل بفشل دور غير المنزعج ، كل شيء يبدو منزعجاً ، كانت الحوائط منزعجة والستائر والأطباق منزعجة و حتى عيدان الأسنان تبدو منزعجة .
كان (حميد) يربط خيوط حذائه العسكري المُلمع وكانت النجوم الثلاثة تلمع على كتفيه العريضين المُنتصبين، كانت والدته الحاجة تُمرر خرز المِسبحة عبر أصابعها وتُسبح بصوت هادئ، أما زوجته كانت تمشط البيت مٌضطربة في كل الاِتجاهات .
عندما انتهى (حميد) من ربط حذائه نهض واقفاً ، تأملت الحاجة اِبنها كانت تفكر :
كم هي فخورة أن يكون هذا الرجل اِبنها ، إنه يجمع ذكريات جميلة فنظرته الحاسمة تشبه والدها، اِبتسامته الدافئة تذكار من زوجها ، كان صوته نسيماً وحركته مُتعة لروحها.
أحضرت الزوجة فنجان القهوة والسجائر وعادت إلى المطبخ وعبر شق الباب كانت تُراقب زوجها ، كانت تحب أن تراه وهو يشرب القهوة ويُدخن السيجارة .
دخل (حميد) بعد قليل إلى المطبخ ووضع يده على كتف زوجته التي لا تستطيع النظر إليه من شِدة حُزنها وسألته :
– هل ستعود ؟؟؟
أجابها بهدوء :
– أكيد … لن أترك أمّي وأولادي وزوجتي الجميلة … هذا وعد .
وبعدها ذهب ليُودع الحاجة والدته وليُقبل يدها فضمته إلى صدرها وغرست أنفها في عنقه وأخذت تشمه و تعبئ صدرها من رائحته.
ثم رفع ابنته من الأرض وتعلق اِبنه برجله كعادته وكان (حميد) يسير به وهو يضحك ثم قال ابنه :
– بابا أنت ماشي تقتل *الجرذان ؟؟؟
سلم (حميد) اِبنته لأمها ونزل على ركبته ونظر إلى اِبنه في عينه وقال :
– بابا مافيش جرذان في ليبيا نحن كلنا خوت وبابا مع ليبيا مش مع حد … أنت توا صغير بس اِذكر الكلام هذا وأفهمه على مهلك … باهي يا بطل .
عندما سمعت الزوجة هذا الكلام اِنهارت بالبكاء وهي تقول :
– يكذب…لن يوفي بوعده لن يعود .
قاد (حميد) كتيبة عسكرية بمهارة عالية وسرعة لإنقاذها من هجمات طائرات *النيتو وبعد عدة أسابيع اِكتسب فيها اِحترام كل الضّباط والجنود وكان يعلم أن *الثوار على مقربة وأن المواجهة قريبة .
ومر الوقت كان (حميد) يرى الثوار على مسافة قريبة وكان الجميع ينتظر أوامره التي تأخرت ، فاقترب منه أحد الضباط وسأله :
– كيف ايصير يا افندي حميد ؟؟؟
وقف (حميد) ونزع مخزن البندقية ورماه بعيداً وسحب مجموعة الأقسام فسقطت آخر طلقة من غرفة النار ودون أن ينظر إلى الضابط قال :
– أنا حدّي لعند هنا .
وجلس من جديد وفي يده بندقيته بدون رصاص وأخذ سيجارة وأشعلها في هدوء كان متمتعاً بنفخ الدخان .
تذكر يوم زفافه عندما سرق أصدقاؤه حذاءه وتذكر والدته وهي تسأل كل يوم عن اِتجاه القِبلة واِبنه وهو يحاول المشي بحذائه العسكري ورائحة الملاك الصغير وتذكر وعده لزوجته .. .
هُنا سَمِع صوت رصاصة من الخلف وسمع صوتاً يقول :
– هذا خوان مع الجرذان .
كانت الرصاصة اِخترقت كتفه الأيمن ثم رصاصة أخرى اِخترقت رقبته فسقط على الأرض .
إنه لا يشعر بالألم … كان يفكر، لماذا يعتقد الجميع أن الموت مؤلم ها أنا أموت دون ألم ، مد يده والتقط الرصاصة التي سقطت من غرفة النار وبعد قليل كان يسمع أصواتاً تتجه نحوه من الاِتجاه الآخر كان أحدهم يقول :
– في واحد من كلاب الطاغية مازال حي .
يرد آخر :
– حرام تقتله هذا أسير .
وهُنا اِقترب آخر وقال :
– اِقتل الفاسد.
وأمطرهُ برصاص في صدره فنام بهدوء وتُرِكَ وحيداً في الصحراء.
في المساء تحركت الرياح وهي تُصلي وتحمل معها حبات الرمل البيضاء لتنسج له كفنا وحضنته في قلبها واختفى تحت الرمال و كتب النسيم على قبره : [هُنا ينام أحد أبنائي في سلام[ .
وهُناك على جدار بيت مُتواضع به عجوز فقدت اِبنها وأرملة وطفلين يتيمين كُتِبَ ( هُنا بيت أحد الأزلام )