وليمةُ القرن *

وليمةُ القرن *

سعيد بوالشنب

كثيرا ما تعترضكم في وسائل التواصل الاُجتماعيّ أو الصّحف الصّفراء ألقاب مِن قَبيل لاعب القرن أو فريق القرن أو حدث القرن و غير ذلك مِن مُخادعات الأقوال التي أبدعها اُقتصاد السّوق…لكن هل أتاكم خبرُ وليمة القرن ؟؟؟ لا أظنّ ذلك….إذن إليكم قصّتها.

في مطلع الثمانينات من القرن الماضي نجحت الحكومات المتعاقبة في توزيع الفقر توزيعا عادلا على المدينة و على الأرياف المحيطة بها. إذ كان أغلبُ النّاس فقراء و يجدون عَنَتًا في سَدِّ نفقة بُطون عيالهم و حتّى مَن كان لديه نَزْرٌ من المال فلا قُدرةَ له على تصريفه فأغلبُ الحوانيت كنتَ تجدُ فيها أكياسا مِن الدّقيق و الكسكسي (1) و بعض البقول الجافّة و نوعا واحدا من الحليب تنتجه شركة تملكُها الحكومةُ المُوقّرة و بعض موادّ التنظيف التّي لا تحفظُ صحّة أمّهاتنا الماجدات. أمّا الموادّ الاُستهلاكيّة الرّائجة اليوم كأنواع الياغورت

(الزّبادي) ذات النّكهات المختلفة و الشوكلاطة و الآيس كريم فلا أثرَ لها تقريبا و ليست من عاداتنا الغذائيّة .

في ذلك الزّمن الصّعب حدثَ أن اُشتاقت أمّي إلى شقيقتها الوحيدة فقرّرت زيارتها و اُصطحابي….

اُشتاقت إليها رغم اُختلافٍ بينهما في الطّباع إذ كانت أمّي مُتحفّظة و كانت خالتي مُتفتّحة و كانت أمّي كتومة و كانت خالتي على خلاف ذلك…لكن رغم هذه الاٌختلافات و أحيانا الخلافات جمعت بينهما رابطةُ الدّم و الأخوّة و الجينات و نِعْمَ الرّابطةُ.

قرّرت أمّي زيارتها و اُصطحبتني رغم صِغر سنّي أو لِصغر سنّي . قطعنا الرّحلة على مرحلتين : اُمتطينا في البداية سيّارة نقل ريفيّ مُتداعية تكادُ أبوابُها تقفزُ عائدةً إلى المصنع الأروبيّ الّذي أنتجها و منهُ إلى الجبال الّتي صُنعَ حديدُها مِن خاماته …ثمّ قطعنا بقيّة الرّحلة على أقدامنا. كانت أمّي تسيرُ في المقدّمة و أنا أتبعُها مثل ظلّها. نشقُّ طريقا صخريّة أطرافها مُغبرّة و على حواشيها نباتات شوكيّة و أخرى غير شوكيّة أذكرُ منها شُجيرات الطّرفاء و الرّتم الّتي تكادُ تُخفينا .

اِشتبهتْ علينا المَسارِبُ فاٌستعنّا ببعض العابرين صدفة فأرشدونا إلى بيت خالتي قائلين :” ..ها هو هناك فوق تلك التلّة..”..فعلا كان بيتا صغيرا فوق تَلّةٍ قام في ذلك المكان صُدفة و خِفية عن التّاريخ يتكوّن من غرفتين صغيرتين لا ثالثَ لهما..كان منزلا على تلّة عالية و حادّة لكنّ النّاظرَ إليه من أسفل يُحِسُّ أنّه على جُرفٍ هارٍ لا يدري متى يسقطُ .

لا زلتُ أذكرُ خالتي و هي مُتسمّرة أمام حِصنها تُحدّقُ في هذين اللّذيْن يقتحمان حُدودها راجليْن ..

كانت تتمعّنُ في طيْفيْنا مُظَلِّلَةً جبينها بحَرْفِ كفّها كيْ تتّضحَ الرّؤية ..فجأة اُستيقظتْ فيها الجينات و كُريّات الدّم الحمراء و البيضاء و اُتّقدتْ الرّؤيا فتدافعتْ عبر مسْلَك ترابيّ حادّ و ضيّق مُتجاوزة الأشواك إلى الأشواق …نزلت من عليائها و اُحتضنتنا بلْ اُحتضنتْ دمَها و جيناتها .

اِجتمعنا في إحدى الغرفتين. كانت غرفة بسيطة تحنّطتْ على يسارها خزانة بُنّيةٌ ذات عينين كبيرتين إلى جانبها صندوق خشبيّ أبيض زيّنته سمكة زرقاء و في وسط الغرفة حصيرٌ بالٍ و حشايا رقيقة و قديمة…شرعنا نتحدّث جميعا في جلبة دون اُنتظار لأدوارنا : أمّي و أنا و خالتي و بنتا خالتي .

فجأة اُفتقدت أمّي شقيقتها فنهضت مُسرعة بعد أن سمعنا قأقأة غريبة..خرجنا جميعا فإذا خالتي قابضة على دجاجتها الوحيدة كاتمة صوتها…شدّت أمّي على يدها و أقسمت أن تطلقَ سراحها بينما تحلّقت أنا و بنتا خالتي حول أمّي نشدُّها من ملاءتها مُقسمين عليها أن تتركَ خالتي تذبحُ لنا دجاجتها.

عند الظهر تحلّقنا حول خِوانٍ قديم تداعت إحدى أرجله تَعلوه جَفْنَةٌ طَفَحَتْ كُسكُسا تعلوهُ هضبةٌ شامخة مِن الأفخاذ و الأرداف و الصّدور و الأجنحة المُتكسّرة و عُنُقٍ صغير دقيق و مُلْتوٍ .

كانت خالتي واجمة فقد فقدت دجاجتها الوحيدة أمّا أمّي فكانت آسفة لأنّ شقيقتها خسرتْ وسيلة إنتاجها  أمّا أنا و بنتا خالتي فكنّا نُشمّرُ عن سواعدنا النّحيلة و الشّررُ يتطايرُ من أعيننا منتظرين نصيبنا مِن….مِن و ليمة القرنِ .

**سعيد بوالشنب **

*شاعر و كاتب*

مدنين/ تونس

الهوامش

-1 الكسكسي هو الطبق الرئيسيّ في المغرب العربي و هو طعام يتّخذٌ من الحبوب خاصّة القمح .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :