- حاورتها : منى توكا شها
الفن لغة عالمية تتجاوز الحدود، تخاطب الأرواح وتروي قصصاً لا تنتهي. ومن بين هذه القصص الملهمة تأتي قصة آمنة الزعيتري، الفنانة والمدربة التي تحدت القيود المجتمعية وكرست حياتها لفتح أبواب الفن أمام الفتيات في الجنوب الليبي. قصتها ليست مجرد نجاح شخصي، بل شهادة حية على قوة الإبداع ودوره في تمكين المرأة وإعادة تشكيل نظرة المجتمع إلى الفن وأهميته في الحياة اليومية.

لطالما كان الفن وسيلة فعّالة للتعبير عن القضايا الإنسانية المختلفة، وعلى رأسها قضايا المرأة. وفي جنوب ليبيا، حيث تحكم العادات والتقاليد الكثير من جوانب الحياة، وقفت آمنة الزعيتري في وجه التحديات لتؤكد أن الإبداع لا يعترف بالقيود. بفضل جهودها الكبيرة والمثابرة التي أظهرتها، أصبحت الفنون الجميلة ليست فقط هواية محببة لدى الفتيات، بل وسيلة لتحسين أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية، وإثبات وجودهن في مجتمع غالباً ما يغفل عن إمكانياتهن.

شغف الفن منذ البداية.
آمنة الزعيتري ليست فقط مدربة، بل عاشقة حقيقية للفن منذ نعومة أظافرها. تتحدث عن بداياتها بحماس واضح: “بدأ شغفي بالفنون منذ كنت طالبة في معهد المعلمات. كنت أجد في الرسم والأشغال اليدوية وسيلة مميزة للتعبير عن أفكاري ومشاعري بطريقة لم أجدها في أي نشاط آخر.” هذا الشغف لم يكن مجرد هواية عابرة بالنسبة لها، بل كان بداية مسار طويل مليء بالتحديات والإنجازات.

قررت آمنة أن تجعل من شغفها رسالة تحملها للأجيال الجديدة. ولتحقيق هذا الهدف، أسست منظمة “نقوش فزان”، التي أصبحت منارة للفتيات اللواتي يبحثن عن فرصة لاستكشاف مواهبهن وتطويرها. من خلال هذه المنظمة، وفرت آمنة بيئة آمنة ومناسبة للفتيات، حيث يمكنهن تعلم الفنون الجميلة بعيداً عن الأحكام المجتمعية القاسية.

التحديات الاجتماعية: كسر الحواجز.
في مجتمع محافظ مثل الجنوب الليبي، كانت فكرة خروج الفتيات للمشاركة في الأنشطة الفنية غير مقبولة لدى الكثيرين. تعكس آمنة هذه التحديات بقولها: “واجهت في البداية صعوبات كبيرة في إقناع العائلات بالسماح لبناتهن بالمشاركة. البعض كان يعتقد أن الفن مجرد ترف لا مكان له في حياتنا اليومية.”

لم تستسلم آمنة أمام هذا الرفض. وبدلاً من ذلك، لجأت إلى طرق مبتكرة للوصول إلى الفتيات، مثل زيارة منازلهن وتقديم التدريبات بشكل فردي. هذه الجهود لم تكن سهلة، لكنها كانت خطوة أساسية لبناء جسور الثقة مع الأهالي وإظهار الجانب الإيجابي للفن. وتوضح: “مع مرور الوقت، تغيرت نظرة العائلات تدريجياً. بدؤوا يرون أن الفن ليس مجرد هواية، بل يمكن أن يكون وسيلة حقيقية لتحسين الحياة.”

اليوم، يمكن رؤية آثار هذا التغيير في العديد من الأسر التي باتت تدعم بناتها للمشاركة في الأنشطة الفنية، بعدما أدركت قيمتها كوسيلة للتعبير عن الذات وتحقيق الاستقلال المالي.
تنمية المواهب وتنظيم المعارض.
لم تكتفِ آمنة بتدريب الفتيات على الفنون المختلفة، بل عملت على تنظيم معارض فنية للمواهب التي دربتها بيدها من خلال منظمة “نقوش فزان”، التي أسستها لتكون منصة تحتضن إبداعات الفتيات وتتيح لهن فرصة عرض أعمالهن أمام الجمهور. من خلال هذه المعارض، استطاعت آمنة تعزيز الثقة لدى المتدربات وإظهار إمكانياتهن للعائلات والمجتمع، ما ساهم في كسر الحواجز الاجتماعية وزيادة تقبل المجتمع لدور الفنون في حياة النساء.

إحياء التراث بحلة معاصرة.
أحد أهم الجوانب في عمل آمنة هو تركيزها على إحياء التراث الثقافي الغني لمنطقة فزان، حيث ترى أن الفن يمكن أن يكون وسيلة فعالة للحفاظ على الهوية الثقافية. تقول: “التراث جزء لا يتجزأ من هويتنا، والفن هو الطريقة المثلى لنقله للأجيال القادمة بطريقة تلائم العصر.”

آمنة تعمل بشكل دؤوب على دمج التراث مع الفنون الحديثة، مستلهمة أفكارها من النقوش التقليدية والتصاميم اليدوية التي كانت تُستخدم قديماً. توضح: “أركز دائماً على إبراز الجوانب الجمالية لتراثنا، مثل النقوش التي كانت تُزين الأقمشة أو الأساليب القديمة في النسيج والخياطة. هذه الحرف اليدوية تحمل في طياتها قصصاً عن نساء عشن في ظروف مختلفة، لكنها لا تزال تلهمنا حتى اليوم.”
كما أن آمنة تستخدم تقنيات حديثة مثل النقش بالكاوية لإضافة لمسات عصرية إلى التصاميم التقليدية، مما يجعلها أكثر جاذبية للشباب الذين يبحثون عن الجمع بين الأصالة والحداثة.

الفن كوسيلة تمكين.
آمنة تؤمن بشدة أن الفن ليس فقط وسيلة للتعبير عن الجمال، بل هو أداة تمكين حقيقية يمكن أن تغير حياة النساء. تقول: “رأيت العديد من الفتيات والنساء يجدن في الفن فرصة لإعادة بناء أنفسهن وتحقيق استقلالهن المالي. الفن يمنحهن ليس فقط دخلاً ثابتاً، بل أيضاً شعوراً بالإنجاز والثقة بالنفس.”
تتذكر آمنة ورشة عمل نظمتها عام 2017، حيث شاركت فيها عشرات الفتيات، وأصبحت العديد منهن فيما بعد قادرات على تطوير مهاراتهن وتحويلها إلى مشاريع صغيرة ناجحة. تضيف: “هذه التجارب تجعلني أكثر إيماناً بأن الفن يمكن أن يكون نقطة انطلاق حقيقية لأي امرأة تريد تغيير حياتها.”

بناء الجسور بين الماضي والمستقبل.
من خلال عملها، تسعى آمنة إلى بناء جسور تربط بين الماضي والمستقبل، حيث ترى أن التراث يجب أن يكون جزءاً من حياتنا اليومية، وليس مجرد ذكريات محفوظة. تقول: “الفن التقليدي يحمل في طياته الحكمة والجمال، لكننا بحاجة إلى تقديمه بطريقة حديثة تلائم متطلبات العصر.”
تشير آمنة إلى أعمالها التي تمزج بين العناصر التراثية والتقنيات الحديثة، مثل استخدام النقوش التقليدية على المنتجات العصرية، مما يجعلها قادرة على جذب أنظار الشباب وتعزيز ارتباطهم بهويتهم الثقافية.

رسالة الأمل.
في الوقت الحالي، تعمل آمنة على توسيع نطاق أنشطتها، حيث تخطط لإطلاق ورش فنية جديدة في مدن أخرى بالجنوب الليبي. تؤكد: “رسالتي دائماً هي أن الفن ليس ترفاً، بل وسيلة للتعبير عن الذات، لإبراز الهوية، ولتحقيق حياة أفضل.”
من خلال إصرارها وشغفها، أصبحت آمنة رمزاً للإبداع النسائي في الجنوب.
قصتها ليست فقط عن التحديات والإنجازات، بل أيضاً عن الأمل والإيمان بأن الفن يمكن أن يكون نافذة نحو مستقبل أكثر إشراقاً.














