- عبدالعزيز الزني
آيت أدّا …..ورسالة من الرجل الميت هناك جميل بين الصدف …. لا شك …. و من الصدف ما يثمر و يبقى و يمتدّ … إبراهيم عبد الجليل الإمام شاب من مواليد “غدامس” 1970م … صدفة التقيته بإدارة المطبوعات طرابلس …. لا بد أن ما أتى بي أتى به ، فعادة لا يقصد هذه الإدارة إلا نادراً سوى كاتب أو شاعر أو باحث أو مترجم ، مهتم بشأن كتاب ، و كثيراً ما ينتج عن تلك الزيارات ، صدقات تصير مثمرة … تولى مدير المكتب الزميل محمود اللبلاب التعريف بيننا ، تبادلنا الأحاديث .. اختتمت تلك الصدفة الطيبة ، بأن أهداني الأمام من توثقت علاقتي به لاحقا و صار صديقا سعدت بمعرفته ، مطبوعتين الأولى قصة بعنوان “آيت أدَّا ” و تعني أهل السافلة و هو اسم أطلقه أهل واحة “غدامس” على ملة الجن .. كما جاء في تهميشة حواها الكتاب ،و الثانية رواية عنوانها “رسالة من الرجل الميت” … عندما عدت إلى سكني ، أخذ الكتابان مكانهما على رف صغير ، حوا عددا من كتب و مطبوعات كنت قد اقتنيتها أثناء تواجدي في مدينة طرابلس 2019م ثم بعد أشهر عدت إلى مدينتي درنة ، و بصحبتي مجموعة من تلك الكتب من بينها ، كتابي الصديق الإمام ، و في درنة ، أخذتْ تلك الكتب مكانها على رف من أرفف مكتبتي المتواضعة جداً ، و لا أكتم سرا ، ما تصورت أن يدي ستمتد يوماً إلى هدية الإمام ، وبعد أشهر ، كنت و كعادتي أراجع محتويات مكتبيتي ، حصيلتي ” النفيسة ” من حطام الدنيا “الزائل” توقفت عند الكتابين ” الهدية” و قد اختير اللون الأسود لغلافهما ، و اتفقا المصممان ” عبد المنعم الموفق ” ” و عبد الحفيظ الثني” كما بدا لي على تثبيت صورة المؤلف على الغلاف الخلفي وهو يبتسم للناظر إليه وبقوة ، تصميم الغلافين كانا معبرين ، سحبت أحد الكتابين .. كانت الرواية ” رسالة من الرجل الميت ” جلست ، الصفحة الأولى تبعتها ، الثانية فالثالثة ، اعتدلت في جلستي ، أخذت الصفحات تتوالى ، و الرواية تشدني .
قصة أربكت الشيخ عبد الجليل ، و سببت له و هو المتقدم في السن حيرة أربكته ، فهناك من جاءه ، باحثاً عن جذوره ، عن منبته ، عن أصوله ،و هذا شأن ، تُفهمك أحداث الرواية مدى أهميته القصوى للمجتمع الصحراوي ، فكان محوراً لها . من وسط غموض مستفحل ، زادت من غموضه مُضي سنوات طوال ، غيبت الشهود واحداً بعد الأخر. و أخفت العلامات الدالة ، فلم يبق سوى رسالة مطلسمة ، انتهى بها المطاف إلى الحفيد يوسف ، و قد استعصى حلها و الاهتداء بما جاء في اسطرها ، فما كان منه إلا أن جاء بها إلى أقدم واحات الصحراء غدامس . من هنا يبدأ كاتب الرواية “إبراهيم عبد الجليل الإمام”نسج خيوطها في سياق يتناوبه الحوار
والسرد.وانتقلت بي صفحات الرواية و بسرعة أهل السافلة ” آيات آ دّا” إلى فندق انتصب وسط جوهرة الصحراء غدامس ، و في صالة الانتظار المكان الذي يؤسس ، لانطلاق أحاث الرواية ، و مرة أخرى وجدتني و عبر صفحات الرواية ، في معية الشخصيتين الرئيسيتين للراوية ، يوسف الشاب ذو البشرة البرونزية ، و القوام الرشيق ، القادم من ” سكتو” وسط بلاد النيجر ، بهدف البحث عن جذوره ، و إبراهيم ابن الحاج عبد الجليل ، من سيتولى فك طلاسم الرسالة ، وهو ابن كبير عائلة الإمام ، أول من التقى يوسف بصالة الفندق ، و أول من استمع إليه ، فكان أن امتص الصدم الأولى ، ليعود بعد ذلك بحيرة كبيرة سيطرت عليه ، و جعلته يلزم حجرته ، الأمر الذي أثار قلق من حوله ، ذلك لأن الأمور ذات الصلة ، بالسلالة و النسب ، و نقاء العرق ، لها بين أبناء الصحراء حساسيتها الخطيرة ، و إذا لم يحسن التعامل معها ، ربما أفضت إلى نهاية مفجعة ، يترتب عليه الكثير من الخطوب ، و هذا ما بات يخشاه و يخافه كبير عائلة الإمام ، مذ استمع إلى الشاب ، ذو البشرة البرنزية ، القادم من “منطقة “سكتو” . و قبل أن تمضي كقارئ مع الرواية ستدرك ، أن أحد شخصيتيها الرئيسيتين ، و هو إبراهيم عبد الجليل الإمام ، يحمل ذات اسم كاتب الرواة . حينها تتساءل هل هو يروي سيرته ، و سيرة أجداده الأوائل ؟ و لكن و كيفما كانت الإجابة ، لن يغير هذا في مجرى الرواية ، ولا في أحداثها ، التي جمعت عبر أربع وثمانين صفحة ، و صارت جزءا من تاريخ ، تجاوز المائة عام . و عقب اجتماع جمع شيوخ و شباب عائلة الإمام ، و بعد أن طرح الموضوع على بساط الحوار و التحاور ، يُكلف إبراهيم ابن عبد الجليل ، أن يتولى ، أمر التحقق من صحة ما رواه ، صاحب البشرة البرنزية المدعو يوسف ، و ادعائه أنه لا يستبعد انتسابه إلى أسرة الإمام ، إحدى الأسر العريقة في الواحة . و تبدأ المهمة ، و يلتقي إبراهيم يوسف ،و ينطلقا في جولة واسعة عبر مكونات غدامس ، ليقف يوسف ، و معه القارئ ، كما حدث معي أو هذا ما أتصوره ، على ما يثر الدهشة ، و العجب ، من المخطط الذي اتبع في تصميم الواحة ، الضاربة بقدمها في عمق التاريخ ، و الذي توخا و في كل خطوة ، و كل حجر يوضع ، الأمن ، و بشكل قد يبدو مبالغاً فيه ، و لكنه ليس كذلك ، إذ سرعانا ، ما تتلاشى الدهشة و يتراجع العجب ، حال ما ندرك ، أن العيش وسط صحراء ، تحيط بها تضاريس صعبة ، بل هي غاية في الصعوبة ، ما يجعل طلب العون و الاستغاثة مستحيلا و ضربا من الخيال ، لأنه و إذا ما افترضنا ، إمكانية وصول المدد و
العون ، فإنه و للأسباب التي ذكرنا ، و المتعلقة بصعوبة التضاريس ، لن يتحقق إلا بعد فوات الأوان ، و وقوع الكارثة ، إذن و الأمر هكذا يصبح الاعتماد على النفس مطلب له ما يبرره ، وهذا ما حدا بأهل الواحة ، و أوحى إليهم بهذا التصميم العجيب شبيه المتاهة ، ما يجعل أمر غزوها مستحيلا ،و يُسهل وقوع المعتدي بأسر الطرق و أسهلها ، و قد وفق الكاتب في و صفه و رسمه حتى ليتراء للقارئ قائما أمام ناظريه . و ينعكس هذا الحرص الشديد ، و الحيطة ، و أخذ الحذر ، و التوجس ، و الغموض ، على محتوى الرسالة ، التي هي الآن في حوزة يوسف ، و يجعل من أمر فك طلاسمها أشبه بالمستحيل ، لكنه يتحقق في نهاية الرواية ، كما أراد لها صاحبها على أيدِ أمينة يطمئن إليها و هو في قبره ،و تخبرك الرواية ، بأنك إذا ما أدركت معنى أن تعيش في وسط صحراء ، قبل مئات السنين ستقتنع ، بأهمية الغموض في صون مجتمعك ، الذي أنت بدونه لا وزن لك و لا قيمة ، و بدونه لست أكثر من حبة رمل في بيداء غير متناهية ، و أن الغموض الذي يصنعه أبناء المجتمع ، من شأنه أن يسهم في توفير الأمن أس الحياة ، و لبنتها الأولى ، و ينأ بهم عن مخالب الغدر …… ثــم .. ماذا ؟ لم يغب عني كقارئ، متعة متابعة حل اللغز”شرلوك هولمز” و القصص البوليسي ، و لكن كلِ على طريقته ، فنكهة الصحراء تلازمك و حتى ص 84 ، قُدم هذا للقارئ عبر أسلوب أخذ صاحبه في اعتباره ، أن يستوعب أحداث الرواية دونما إحساس في نهايتها ، بخلل ينشأ عن حجمها طولا أو قصرا ، منطلق الرواية وثيقة قديمة ، تُفهمك أحداثها مدى قدسيتها و أهميتها ، و ما هذا إلا بسبب فحواها و صلته العميقة بشجرة النسب و نقاء العرق ، و الدليل أنها أي الوثيقة ، البتة لم تُهمل و من جيل إلى جيل ، كانت تلقى ذات الاهتمام ، دونما تراجع أو ملل ، بل رأينا كيف كان الاهتمام في تصاعد مستمر ، و إلا ما الذي جاء بالحفيد يوسف بعد عقودِ طويلة ؟ ! قد يكون هذا في مجتمعات أخرى غير صحراوية و لكن إطلاقاً ، لن يبلغ من الأهمية ما بلغه في رواية الكاتب إبراهيم عبد الجليل الإمام ، التي تمحورت بجميع أحداثها و شخوصها حولى فحوى الوثيقة . و ماذا أيضاً ؟ حوت الرواية على كم من المعلومات ، جاءت متساوقة مع السياق العام و منسجمة مع غاية الرواية ، فكانت أن رفعت الغطاء عن الكثير من أسرار الصحراء ، ما مثل جانباً من المتعة تحفز على الاستمرار في متابعة القراءة ، ثم و بما اتبعه الكاتب في أسلوب تناوله لأحداث الرواية و مجرياتها ، رأينا كيف أنها اختلفت عن غيرها من روايات أخر كانت الصحراء و أسرارها صلب موضوعها .