أطياف نورانيَّة  من رواية “الفردوس المحرّم”

أطياف نورانيَّة  من رواية “الفردوس المحرّم”

 يحيى القيسي

….. ثم نودي عليها: يا خيل الله أركبي.

فتطامنتْ لنا وركبنا، ورأيتُ “يوسف” المَجذوب قد صعدَ على واحدةٍ منها، وصديقي عاشق الفلك، والشَّيخ المُحبّ يتقدَّمنا على مركبةٍ عجيبةٍ تَجرُّها ثمانية من تلك الخيول النورانية، ورأيتُ الأرضَ تُطوى تحتنا طيّاً، والمدنُ تمرُّ مرَّ السَّحاب. عرفتُ بعضاً ممَّن زرتها من قبل، وجَهلتُ أكثرها، وعجبتُ لأمري فكلَّما نظرتُ إلى شيءٍ، وإنْ كان بعيداً يُصبح قريباً إنْ خطر في بالي ذلك ثمَّ يبتعد، فكأنّي أُشاهد الأمر في مِنظار مقرّب، وحتّى سمعي صار حادَّاً، فإنْ رأيت من يعزف أو يُنادي أو يتكلّم من بعيد، ورغبت بسماع كلماته وصلتني في التوّ والحال، وإنْ رغبتُ بتجاهل هذا يحصل المُراد، فقلت في نفسي: هل حصلتْ لي التَّرقية التي كانت تحدثنا عنها “باتي”؟

ورأيتها خلفي حين مرَّ ذِكرها في قلبي، وكانت تركب أيضاً واحدة من تلك الأطياف، وتُومئ لي وتبتسم، بأنّ ذلك قد آن أوانُه!

ثم مررنا بجبالٍ عاليةٍ أعقبتها سُهول فَسيحة، ثم بدأتْ الأرضُ تحتنا تتغيّر في لونها وتضاريسها من شدَّة الثلج حتَّى غدت صفحةً بيضاء، ونحن في حفظٍ عن الحرّ والزمْهرير، وكنّا نتوجّه كما جاء في حدسي نحو الشمال، حتى غاب عنّا أيّ عِمران، ولم نعد نلمحُ تحتنا حركة إنسان، ثم بدأت جبال الثلوج ووديانه الكثيفة تزداد شساعةً وانفساحاً، حتى تجاوزناها بسرعة عجيبة كأنَّها طرفةُ عينٍ. بعدها تمهّلنا حتى رأينا البياض يبدأ بالزوال شيئاً فشيئاً، وشاهدنا أشجاراً ضخمة لم أر مثل حجمها من قبل، ورأينا قُطعاناً من حيوانات عجيبة كنَّا نظنها من المنقرضات، ثم طُويت تحتنا المسافات بسرعة، كأنّنا دخلنا في نفق هائل بدأ ضيقاً ثم اتّسع حتى ظهر لنا ما يشبه تجمعات من البشر، وما هم بالبشر من شدّة ما مُسخوا في أرض قفر متجعّدة السطح مغبّرة الأجواء، كأنّهم الدواب، يدقون طُبول الحرب، ويصنعون الرماح والسّيوف كمن يتهيأ للنزال، فقلت:

  • من هؤلاء يا مولانا المُحبُّ؟

فقال لنا:

  • إنّهم أقوام لا يكادون يفقهون قولاً، محبوسون منذ آلاف السنين، وينتظرون وقت فرجهم بالخروج إلى سطح الأرض كي يعيثوا فيها فساداً، حِقداً منهم على الناس ورغبة بالانتقام مما جرى لهم، فهم شرّ الدواب التي لا تعقل ولا تسمع ولا تَرى.

وقال الشيخ إنّنا سنرى عوالم كثيرة من ممالك الظلام، قد باعوا أنفسهم لسيّدهم الأول، الذي ما يزال بينهم من المُنظرين، ثم بعد أن تجاوزنا في الرؤية من الأعالي لهؤلاء الأقوام حتّى دخلنا في ما يشبه الجنَّة من كثرة جمالها في الشجر والأزهار والعِمران، محروسة بشدّة من كلّ الجهات، لا يقدر على دخولها أحدٌ إلا بإذن، ورأينا هناك من الصَّالحين والأولياء الأطهار وقد فتحوا لنا البوابات، ثم وضعونا في مركبة عجيبة نرى الناس منها، ونسمع أصواتهم، وهم لا يروننا، وأذَّنَّ مؤذنٌ فينا أن توكّلوا على خالق كلّ هذا الجمال، القديم المُتعال، ورأينا فيها من أجناس البشر ما لا يُحصى. قاماتهم أطول منّا، وأجسادهم أكثر إشراقا وشباباً، كأنّهم قد شربوا من ماء عين الحياة فلا يبدو عليهم المرض، ولا تبدّلات السنوات. كلٌّ قائم في عمله بكلّ بهجة. لو وصفت جمال نسائهم ما وسعتني الصفحات، ولا أغنت عنّي العبارات، فكلّ ما هناك هو غير ما أصف لقصور اللغة، وحيران العقل، ورأينا بينهم من الأقوام الأخرى القديمة التي كانت على الأرض ذات حقب سحيقة، وهم من الذين نجوا من شرور البشر ومَنْ معهم من المُعلمين الصَّالحين، يُعمّرون أكثر من ألفي سنة، قد وصلوا مرتبةً عظيمةً في العلوم، والبناء والصناعات التي تجعل حياتهم مُيسَّرة. عندهم مكتبات هائلة تحفظ كلّ تراث البشر، وما استطاعوا له معرفة من أحوال الكون، وعندهم كُتّابٌ مهرة قد توكلوا بكتابة ما جرى على حقيقته، لا ما أصابه التزوير والبهتان!.

وليس هناك ليل ولا نهار، ولا حرارة أو برودة، بل اعتدال دائم، و ضوء يأتي من كوكب درّي، يدور في فلك سمائهم، فإنْ رغبوا بالنّوم أسدلوا عليهم الستور، ورأيت آلات عجيبة منها ما يشبه الطائرات الصغيرة يركب فيها الناس فتطير، أو أحياناً تراها تسيرُ على الأرض، وبين هؤلاء القوم من هو جالس يتأمَّل، أو يقرأ في كتابٍ، أو يُناقش، أو يرسم، أو يعزف الموسيقى، أو يأكل، أو يشرب، أو يلعب، فلديهم من اللهو والترفيه ما لدينا أضعافاً مضاعفة، ومن كلّ شيء أجمله وأعلاه، قد سبقونا بمئات السنوات في كلّ أمورهم كما بدا لي، إضافة إلى حسن الأخلاق، وسلاسة التعامل، وعلوّ الهمة والارتقاء!

وعرفت بأنّ هؤلاء من أخوتنا الذين سيأتون إلينا مناصرين حين يأتي أوان ذلك من أجل إعمار أرضنا التي فسدت، ونشر العلوم الصحيحة، وأوصونا بالصَّبْر على التبدّلات المقبلة التي يرونها تجري رأي العين في القريب العاجل، بضع سنوات أو يزيد فما بعدها إلا الفرج، وقالوا إنّ في أرضهم الشاسعة ممالك كثيرة من الظلمانيين الذين يتهيؤون أيضاً لقتالهم، والسيطرة على مدنهم، واستعبادهم، وأنّ المعركة ستكون فاصلة هذه المرّة، فإنّ الصراع قد طال، والأمر يجب أن يحسم، وهو ليس بالشيء اليسير، لكنّهم يعرفون بأنّ خالق الأكوان لديه حسن التدبير!.

ثم جاء أوان الرحيل، فودعنا أحبّتنا بالبكاء، ونحن لا نرغب بمفارقتهم، وقدَّم لنا كبيرهم هديّة لكلّ واحد منا، وحين أتى دوري قال لي: هذا كتاب قد تجد فيه ما يفيدك، تتجدّد حروفه، ومعارفه كلما نظرت إليه ولو بعد سنوات، ولا تنقضي علومه أبداً، فإن عدت إلى ديارك فانشر منه شيئاً على الناس، ولا تكلمهم عنه إلا رمزاً، وطرتُ فرحاً بتلك الهديَّة العجيبة، ورأيت كما لو أنّنا عدنا إلى أطياف النور التي على شكل خيول، فركبناها، وبدأت من جديد تتبدّل تحتنا الأمكنة، وتأتينا بالخاطر أخبار كلّ ما نرى دون أن نسأل، ثم رأيتني وحيداً قد غاب عنّي رفقائي، وأحسستُ كما لو أنَّني توقفت عن الطيران، وغامت في عينيّ الأشياء واختلطت الرؤى، ثم  شعرت بي على الأرض ممدّداً، وصحوت على نفسي داخل خيمة في هزيع الصبح الأخير وحولي صحراء لا تُحدّ، ووجدت يديّ ممسكة بكتاب عليه اسمي، ومكتوب عليه “كتاب الأسرار والأنوار”، فأخذت أقرأ ما فيه، ووجدت عجباً، ثم انتبهت إلى حركة خارج الخيمة، ووجدت مجموعة كبيرة من السياح من شتّى الأجناس من الذكور والإناث، وقد طلعت عليهم الشمس، وهم يتململون للاستيقاظ، فأخفيت الكتاب تحت كومة صغيرة من الرمال حتى لا يراه أحد، وقلت سأعود إليه بعد حين، فرحت أبحث بينهم عن رفيقي “يوسف” المجذوب و”محمد”، فلم أعرف لهم خبراً، ثم عدت إلى الخيمة، ونبشت الرمال كي آخذ الكتاب، وأستوعب أين أنا وإلى أين أمضي بين كلّ هؤلاء الأغراب، فما وجدت له أثراً!.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :